الـتوبـة
الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات , أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه واستغفره , وأعوذ به من الشرور والخطيئات , وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له غفار الذنوب وستار العيوب , وقابل التوبة ممن يتوب , فسبحانه من إله كريم تواب , يحب من عباده كل متطهر ويغفر لكل أواب .
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله , ومصطفاه وخليله , سيد المستغفرين والتائبين , وخاتم الأنبياء والمرسلين , اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين , وعلى أزواجه أمهات المؤمنين , وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فيا أيها المسلمون : اتقوا ربكم وأطيعوه , وراقبوه ولا تعصوه , وتوبوا إليه واستغفروه
عباد الله : إن شر ما ابتليت به نفوسنا ( الغفلة ) وأشد ما أصيبت به قلوبنا ( القسوة ) فهما يقطعاننا عن الله والدار الآخرة .
وأسباب الغفلة والقسوة يرجع أصلهما إلى مواقعة الذنوب والمعاصي , فما نزل بلاء إلا بذنب ، ومن أخطر البلاء : أن يبتلى العبد بالغفلة والقسوة .
ولما كان كل بني آدم خطاء , ونفوسهم تدعوهم إلى مواقعة الشهوات وارتكاب السيئات , جعل الله للعباد باباً واسعاً للخروج من أسر المعاصي وشؤمها وتبعاتها .
هذا الباب عباد الله : هو التوية والإنابة إليه سبحانه .
عن صفوان بن عسال رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله جعل بالمغرب باباً عرضة مسيرة سبعين عاماً للتوبة ، لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قِبَلهِ ) أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح ، وتبعه الألباني على تحسينه .
عباد الله : التوبة من الذنوب ، والرجوع إلى علام الغيوب ، مبتدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين , وأول إقدام القاصدين , ومفتاح استقامة المائلين , فمن أراد أن ينتظم في سلك المفلحين عليه أن ينزل في منزلة التوبة في كل مرحلة من مراحل حياته وسيره إلى الله , ولا يفارقها إلى الممات ، لأنها طريق النجاة وسبب الفلاح ، قال الله : (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) .
نداءات ربانية متكررة في القرآن فيها الدعوة للمسارعة إلى التوبة والترغيب بها ، قال جل وعلى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ )) وقال جل وعلى : (( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ )) وقال : (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ )) وحكم سبحانه على المعرضين عن التوبة بالظلم فقال : (( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) فيا أيها المؤمن تب مع التائبين ولا تكن من الظالمين .
عباد الله : ربنا الحكيم الحليم تواب رحيم سمى نفسه بالتواب في أحد عشر موضعاً ، ووصف نفسه بأنه قابل التوب ويقبل التوبة عن عبادة (( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ )) ، ولذا فالله يحب التوابين , ويريد أن يتوب على المذنبين ويطهرهم من أوساخ الذنوب .(( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ )) ( وخير الخطائين هم التوابون ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( وليس أحد أحب إليه العذر من الله ) رواه مسلم .
من أجل ذلك رغبنا سبحانه بالتوبة في كتابه وعلى لسان رسوله غاية الترغيب ، مهما كانت الخطيئات ، ومهما بلغت السيئات ، فجعل التوبة سبب الفلاح وسبب تكفير السيئات , ودخول الجنات , وسبب لمحبته سبحانه , وسبب لنزول الخيرات ، وارتفاع العقوبات .
ونهى عن القنوط مهما بلغت السيئات : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))
وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة قال صلى الله عليه وسلم : ( لو أخطاتم حتى تبلغ خطاياكم عنان السماء , ثم تبتم , لتاب الله عليكم ) ، وفي الحديث القدسي : ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ) و( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود وهو حديث حسن ، والله يفرح بتوبة عبده – وهو الغني الحميد – أشد من فرح رجل وجد بعيره بعد أن أضاعه بأرضٍ فلاة مَهْلَكه ، كما في الحديث المتفق عليه .
عباد الله : والترغيب الذي ليس وراءه ترغيب ، تبشير التائب توبة نصوحاً بأن سيئاته تقلب وتبدل حسنات فقال جل جلاله : (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )) ، الله أكبر ، سيئاتك الماضية تنقلب بتوبتك النصوح حسنات , لأن التائب كلما تذكر ما مضى من الذنوب ندم واسترجع واستغفر , فينقلب الذنب طاعة لله .
ويؤكد هذا المعنى ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار ، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة , يؤتى برجل فيقول الله : نحُّو عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال فيقال : عملت يوم كذا ، كذا وكذا , وعملت يوم كذا , كذا وكذا ، فيقول : نعم ، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً , فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة , فيقول : يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا , قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ) ، حُقَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحك فرحا وغبطة وتعجبا من هذا الكرم الإلهي العظيم .
ثبت عند البزار , أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أريت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً , وهو في ذلك لم يترك حاجَّة ولا داجة إلا أتاها , فهل لذلك من توبة , قال : ( فهل أسلمت ) قال : ( أما أنا فاشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تفعل الخيرات , وتترك السيئات , فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ) قال : وغدراتي وفجراتي ؟ قال : نعم . قال : ( الله أكبر , فما زال يكبر حتى توارى )
فماذا تنتظر أيها المذنب وكلنا ذاك / إلى متى ما تتوب ، فربك كريم تواب رحيم يفرح بتوبة التائبين , ويمحو الذنوب كلها ولا يبالي ، فتقدم عليه وكأنك لم تذنب وتقدم مع أحبابه , ويزيدك فضلاً فيبدل سيئاتك حسنات ، ثم نحن تأخر عن ركب التائبين ونسوف فيها .
اللهم اكتبنا في أحبابك التائبين اللهم تب علينا وعلى التائبين . اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المرتضى محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه وكل من اقتفى ، أما بعد :
فلقد تاب الله على أبينا آدم عليه السلام بعد أن تاب وألقي عليه كلمات . وتاب على موسى , وتاب على النبي محمد والمهاجرين والأنصار الذين أتبعوه في ساعة العسرة ، وتاب على الثلاثة الذين خُلفوا ، وأثنى بها على خليله إبراهيم إمام الناس أجمعين فقال : (( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ )) ووصف بها عبادة المتقين فقال : (( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))
وعرضها الله التوبة على أقوام :
عرضها على الذين ألَّهوا عيسي وقالوا إن الله ثالث ثلاثة فقال : (( أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّـهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ )) وعرضها على أصحاب الأخدود الذين قتلوا أولياءه فقال : (( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ))
وعرضها على الكافرين فقال : (( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )) وعرضها على المنافقين وعلى السارقين وعلى آكلي الربا وطلبها من المؤمنين أجمعين فقال : (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا )) .
يقول محمد بن كعب : ( يجمع التوبة أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والانقطاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الإخوان )
عباد الله : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسي النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) فلنبادر إلى التوبة قبل غلق الباب فليس أحد مستغن عن التوبة مهما بلغ من الدرجة في الإيمان والعمل الصالح ، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم النبي الصالح وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي المجلس الواحد يستغفر ويتوب مائة مرة .
فيا عبد الله : كلما وقعت في الذنب جدد التوبة النصوح , واعزم على أن لا تعود , فإن عدت فتب واعزم على أن لا تعود وهكذا ، فخذ بوصية نبيك صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن إذ يقول : ( ما عملت من سوء فأحدث له توبة , السر بالسر والعلانية بالعلانية ) مهما تكرر الذنب
يا مسرفا على نفسه ، اسكب العبرات على ما فات ، ويا من جددت العهد مع الله في أيام خاليات ، اثبت على العهد ولا تقرب الخطيئات ، يقول طلق بن حبيب : ( إن حقوق الله أثقل من أن يقوم بها العباد , وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد , ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين ) .
اللهم ارزقنا توبة صادقة نصوحاً . اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم اغفر لنا خطأنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدِّنا وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا .
اللهم أصلح قلوبنا أجمعين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم إنا نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شر .
اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أعز السنة وأهلها في كل مكان اللهم قو أهل السنة وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً . اللهم كن لهم ولا تكن عليهم وأعنهم ولا تعن عليهم وامكر لهم ولا تمكر عليهم . اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم يا أرحم الراحمين.
اللهم ودمر أعداءك أعداء الدين والملة. الذين يقاتلون أولياءك ويكذبون رسلك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق يا قوي يا عزيز .
اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق واجعلهم يدا واحدة على من سواهم وولّ عليهم خيارهم واكفهم شرارهم وأعذهم من الفرقة والفتنة والاختلاف والشقاق يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم اغفر لموتى المسلمين ، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ، اللهم جازهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا: