العفاف
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً
عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير
الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها
، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
العفة
هي النزاهة والنقاء ، وهي كفُّ النفسِ ورفعُها وضبطُها عما لا يحل ، وعما لا يجمل
من الشهوات .
والعفة
قوة داخلية في النفس يمتنع بها الشخص من غلبة الهوى والشهوة المحرمة .
وبين
العفة الحياء تلازم وتداخل واقتضاء .
والعفة
تكون في مجال الأموال والبطون ، كما تكون في مجال الجوارح والفروج .
وحديثي
في هذه الخطبة عن عفة الفرج وحفظه وصيانته عن الفاحشة وكل الحرام , وحفظ الجوارح
وصيانتها عن كل ما هو طريق ووسيلة لتدنيس الفرج وإثارة شهوته إلى الرذيلة .
أيها
المسلمون :
العفة
خلق نبيل من رفيع أخلاق الإسلام .. وصفة فاضلة اتصف بها النبلاء من الرجال والنساء
في الجاهلية والإسلام . جاءت الدعوة إلية في أول الإسلام ، وإنما بعث عليه الصلاة
والسلام ليتمم مكارم الأخلاق وصالحها ، قال أبو سفيان رضي الله عنه لما كان على
الشرك وسأله هرقل : بماذا يأمركم محمد ؟
قال أبو سفيان: (كان يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء
الأمانة)
أيها
الناس : يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ الْحَيَاءَ ، وَالْعَفَافَ ،
وَالْعِيَّ ، -عِيُّ اللِّسَانِ- لا عِيَّ الْقَلْبِ ، وَالْفِقَهَ مِنَ
الإِيمَانِ ، وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِيِ الآخِرَةِ ، وَيُنْقِصْنَ مِنَ
الدُّنْيَا ، وَلَمَا يَزِدْنَ فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُنْقِصْنَ فِي
الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الشُّحَّ وَالْفُحْشَ وَالْبَذَاءَ مِنَ النِّفَاقِ ،
وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا ، وَيُنْقِصْنَ مِنَ الآخِرَةِ ، وَلَمَا
يُنْقِصْنَ فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا)) . حديث صحيح
أخرجه الطبراني. فالحياء والعفاف من الإيمان ، يزيدان في نصيب العبد من الآخرة .
يا
أهل الإسلام : العفة والطهر والنقاء خلق أهل الإسلام ، يجب أن يكون سمةً ظاهرةً
لكل مسلم ومسلمة يتربى عليه الصغار ، وينشأ عليه الشباب ، ويعيشه الكبار واقعاً ،
كما يجب أن يكون سمةً للمجتمعات الإسلامية ، به تتميز عن المجتمعات الكافرة
المنحلة ، التي كانت أولَ فتنتَها وبوابةَ انحلالِها وسقوطها في مستنقعات العُري
والعهر والرذيلة ، كانت فساد النساء .
أيها
المسلمون: إن من أول وسائل الشيطان الرجيم لتلطيخ الآدميين بالخطيئة: خدشُ عفتهم ،
ونزعُ الحياء من نفوسهم بكشف عوراتهم فيما بينهم (( يَا بَنِي آدَم لَا
يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّة يَنْزِع
عَنْهُمَا لِبَاسهمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهمَا )) .
عباد
الله : لقد أمرنا الله بالعفاف فقال : ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)) فالشباب العزاب الذين لا
يستطيعون الزواج مأمورون بالتعفف ، ولا شك أن الأمر أحتم وأوجب وآكد في حق
المتزوجين.. لذا كانت عقوبة المتزوج عندما يترك العفاف ويقع في الزنا عقوبة غليظة
جداً .
ورغب
الله تعالى بطلب العفاف عن طريق النكاح بالوعد بالعون ، فقال صلى الله عليه وسلم:
(( وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) حديث صحيح أخرجه الترمذي
والكبيرات
في السن اللاتي لا يرجون نكاحاً ، بعدما رفع الله الحرج عنهن بوضع بعض الثياب دون
التبرج بزينة ، أرشدهن الحكيم العليم وقال : (( وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ
لَّهُنَّ)) فالتعفف خير للكبيرات ، فكيف بالشابات .
فمن
المحزن أن ترى أمَّاً كبيرة في السن محتشمة متسترة غاية الستر ، وترى معها ابنتَها
الشابة قد فرطت في الحشمة فأظهرت عينيها وما حولهما وكفيها وقدميها وما تحت
عباءتها من زينتها ، فهذا والله إخلال بالعفاف الذي يقتضي كمال الاحتجاب والتستر .
عباد
الله : لقد أنزل الله في معالجة الستر والعفاف سورةً عظيمةً هي سورةُ النور،
افتتحها الله بافتتاحية فريدة أثنى فيها عليها وعلى آياتها فقال سبحانه: (( سُورَةٌ
أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ )) .
لذا
جاء عن عمرَ الغيورِ أميرِ المؤمنين رضي الله عنه أنه قال : ( علموا نسائكم سورة
النور ) [أثر صحيح على شرط مسلم أخرجه سعيد بن منصور والقاسم بن
سلام].
-
لقد جاء في هدايات آيات السورة : حدُ الزنا والتنفيرُ منه ، وحدُ القذف وخطورتُه ،
وحادثةُ الإفك على عائشة أم المؤمنين العفيفة الطاهرة رضي الله عنها ، وفي آيات
الحادثة توجيهات ربانية رفيعة .
وجاء
في آيات السورة أيضاً الوعيد بالعذاب الأليم للذين (( يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا )) ، وجاء التحذير من اتباع خطوات الشيطان
لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر .
وجاء فيها آداب الاستئذان، والأمر بغض الأبصار
وحفظ الفروج وأنهما سبب للزكاء والنقاء ، وجاء نهيُ النساء عن إبداء الزينة إلا ما
لا تستطيع إخفاءه كالقوام الظاهر، ونهيهن عن ضرب الأرض بأرجلهن ليُسمع صوت الخلخال
.
وجاء
في السورة : الأمر بتزويج الأيامى ، والنهي عن أن لا يكون الفقر مانعاً من تزويجهم،
وجاءت فيها آية الأمر باستعفاف العزاب وآية إرشاد الكبيرات إلى الاستعفاف .
وجاء
في السورة : آية الاستخلاف والتمكين للإشعار بأن من وسائل الاستخلاف والتمكين
تحقيق العفاف في المجتمع المسلم .
وتُخْتتم
السورة بالتحذير من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن مخالفة أمره سبب
للإصابة بالفتنة والعذاب الأليم .
فحقاً
إنها سورة السِّتْر والعفاف ، سورة تهدي لنور خاص من نور القرآن ، فمن ترك
هداياتها عاش في ظلمات الفجور والفحش والرذيلة .
فيا
أهل الإسلام: والحرب قد اشتدت على مجتمعاتكم لإطفاء نور العفاف والطهر والستر من
حيائكم، عليكم واجب صيانة أعراضكم ، بناتكم ونسائكم وأبنائكم وأطرهم على العفاف
أطرا .
تعففوا واسعوا لعفاف محارمكم فإنه : (( مَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ )) متفق عليه ، واسألوا ربكم العفاف كما كان نبيكم
صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى
وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى )) رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم في
الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم
إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى , وقدَّر فهدى , وأخرج المرعى ، نعمُهُ تترى
, وفضله لا يُحصى , لا مُعطي لما منع ولا مانع لما أعطى , وكلُّ شيء عنده بقدر
وأجلِ مسمى .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الحكمةُ فيما قدّر
وقضى ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأخشى لربه والأتقى ، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
فيا
عباد الله : لقد صانت الشريعة الغراء العفاف بسياج من التشريعات الحكيمة التي تغلق
باب الفتنة وتسد باب الذريعة إلى الرذيلة ، فحرمت الزنا وجعلته من الفواحش
والكبائر والموبقات ، وغلظت فاحشة اللواط وحكمت بقتل الفاعل والمفعول به .
وأمرت
النساء أمر إيجاب بالحجاب ، ونهتهن عن إبداء الزينة للأجانب ، وعن الخضوع في القول
، وأمرتهن بالقرار في البيوت ، وإن خرجن خرجن بلا تبرج ولا سفور .
وحرمت
الشريعة الخلوة بالمرأة الأجنبية، وسفر المرأة بلا محرم ، وحذرت من الدخول على
النساء ، ونبهت إلى خطورة ( الحمو ) قريب الزوج .
فمن
تجاوز هذه الحدود الشرعية عرَّض نفسه للفتنة ، وفتح عليها باب الذريعة .
أيها
المسلمون: العين تزني بالنظر , والأذن تزني بالسمع , واللسان يزني بالكلام , واليد
تزني باللمس والتناول والكتابة ، والرجل تزني بالمشي ، كما جاء في الحديث الصحيح ،
وعفة هذه الجوارح بترك شهواتها المحرمة تقرباً إلى الله ، وخوفاً منه، ورجاً فيه ،
ومحبة له وتقديما لمحبوباته جل وعلا على محبوبات النفس ، وهذه العبودية من أحب
العبوديات لله ، ألم يقل الله تعالى في الصوم : (( إنه لي وأنا أجزي به , ترك
طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) فكذلك صوم الفرج والجوارح عن الحرام عبوديةً
للرحمن , هي من عبودية الصبر الذي هو نصف الإيمان و((إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ))
وفي
عفاف الجوارح يتجلى الإخلاص لله ، لأنها يمكن أن تخون والناس لا يعلمون .
وفي
زمن الشاشة والقناة الفضائية والهواتف المحمولة وتفنن متبعي الشهوات في نشر العري
والإباحية ، في ظل هذا الواقع يقوى الصراع بين النفس المؤمنة وبين الهوى والشيطان
والشهوة ، ويظهر من يخاف الله بالغيب ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم
بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)) .
فاللهم إنَّا نسأَلُك
خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في
الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد
القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى
لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف
والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم
ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور
وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا
وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين
بها قابليها وأتمها علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا
اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك قريب مجيب الدعوات.
اللهم ربنا ظلمنا أنفسنا
ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لنا مغفرةً من عندك وارحمنا إنك
أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.. اللهم إنا نسألك
بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا
يحي يا قيوم نسألك أن تغفر لنا وتغيثنا غيث الرحمة، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا
من القانطين ... اللهم يا من لا يملك إنزال الغيث غيره أسقنا وأغثنا .. اللهم
أغثنا غيثاً مغنياً سحاً غدقاً هنيئاً مريئاً نافعاً غير ضار اللهم سقيا رحمة...لا
سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق.. اللهم أغثنا اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا غيثا عاجلاً
غير آجل تحيي به البلاد وتغيث به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم أغث
البلاد وانشر رحمتك على العباد واجعله بلاغاً للحاضر والباد يا حي يا قيوم يا ذا
الجلال والإكرام.
اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك يائسين يا
رحمن يا رحيم . اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |