غــلاء
الأسـعار
18 - 04 - 1439هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً
عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير
الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها
، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
الحياةُ
الدنيا دارُ معبر وممر لا دار دوام ومستقر ، وهي دار ابتلاء واختبار ((إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا)) ((إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ))
والبلاء
مرة يكون بالضراء، وأخرى يكون بالسراء ((وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) ((وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) .
أيها
الناس :
وإن من صور البلاء التي يجريها الله على العباد ، ما اشتعلت به مجالس الناس هذه
الأيام واستحوذ على اهتمامهم وحديث مجالسهم، وملأت نفوسهم هماً وغما ، أعني قضية: " غلاء
الأسعار ، وفرض الرسوم المالية " ، ومن أجل ذلك
عباد الله أقف معكم وقفات حول هذا الموضوع ، لعل الله أن يهدينا لما فيه رضاه في
سرائنا وضرائنا .
أول
الوقفات عباد الله : أن الأسعار غلت في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقالوا يا رسول الله : سعّر لنا ، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ، وَإِنِّي
لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي
بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلاَ مَالٍ)) . [أخرجه أبو داود
والترمذي وصححه الألباني رحمهم الله] .
تأملوا
يا عباد الله: غلت الأسعار في خير القرون وفي حياة خليل الله وخيرته من
خلقه صلى الله عليه وسلم ، رغم قلة ذات اليد في الناس، وعموم الفقر فيهم...
فنأخذ من هذا عبرة أن البلاء بارتفاع الأسعار يصيب الفئة المؤمنة الصالحة لحكم
يريدها الله بغض النظر عن أسبابه، وعلى عباد الله الرضا بقضاء الله والتسليم
لحكمه .
فرغم الضيق الذي سيزداد على الناس في معايشهم
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن تحديد الأسعار لما طلب منه الناسُ ذلك،
وأرجع ارتفاع الأسعار إلى فعل الله ومشيئته ، فعلم من ذلك عدم تحريم الشريعة لغلاء
الأسعار إذا كانت أسبابه طبيعية .
الوقفة
الثانية :
أن الغلاء والرسوم مصيبةٌ على الناس في أموالهم ومعيشتهم ، ويجب على المسلمين تجاه
المصائب أولاً: أن يجروا عليها القانون الشرعي الرباني القرآني المتقرر في قول
الله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) ، وقفوا عند ((وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) واستحيوا من
الله الذي عفا عن كثير ، وأصابنا بأثر القليل .
وقرر
الله هذا القانون في قوله تعالى أيضاً: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)).
فالواجب
علينا يا أهل الإيمان أن نعود باللوم والمحاسبة إلى أنفسنا على تقصيرها في حق ربها
، ووقوعها في معاصيه وحرماته ، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
)) .
فوا
عجباً من حالنا .. نتذمر ونتسخَّط ونجزع من الغلاء والرسوم ، وفينا من لا يشهدون
صلاة الفجر والمضيعون للصلاة والمقصرون في الجماعة ، فينا قاطع الرحم والعاق
لوالديه وآكل المال الحرام وباخس والمتساهل في النظر إلى المنكرات وفينا مانع
الزكاة ومضيع الأمانات ، واستشرى فينا الإسراف في المآكل والمشارب في المناسبات ،
وظهرت فينا مظاهر عدم شكر النعمة مما هي أسباب لنقص النعم بل وزوالها، ونطلب
المزيد والثبات لها .. هذا يخالف سنة الله التي جرت وتجري في العباد، فنحن الذين
تعاطينا أسباب نقص الأرزاق ، فلنستحِ من ربنا ولنتوقف عن السخط وهذه حالنا فنحن
نستحق ما هو أكبر من هذا البلاء ، لولا عفو الله ورحمته ولطفه ورأفته وحلمه علينا
.
الوقفة
الثالثة :
((وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) الصبر مقتضى الإيمان وواجب
أهله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا)) ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )) ..
لنكثر من قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولنستشعر معناها ، ( إنا لله ) فنحن
عبيد لله مربوبون له يدبرنا كيف يشاء بعلم وحكمة ورحمة.. (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ) فاصبروا وأبشروا بحسن العاقبة في العاجلة والآجلة . وأبشروا بالفرج
بعد الشدة وبالسعة بعد الضيق .
والتشكي
والتسخط والتذمر منافيات للصبر ، فلا تضيعوا أجر الصبر على البلاء بإطلاق العنان
للسان .
الوقفة
الرابعة :
إن مما يعاب علينا في ظل تقلبات أحوالنا الاقتصادية تفشّي الإسراف في حياتنا، حيث
تحوّل الإسراف من سلوك فردي لدى بعض الموسرين والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح
المجتمع كله، فالواجد يسرف ، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ، ويلبي متطلبات
الكماليات وربنا تبارك وتعالى ينهانا فيقول : ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) ، ولعل في محنة الغلاء والرسوم
منحة التربية على القصد في الإنفاق الذي امتدح الله أهله في قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ
إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ
قَوَامًا )) ، ومن القصد الاكتفاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها ، وتربية
الأسرة كلها على ذلك ، فالناس قد توسعوا كثيراً ، فرب ضارة نافعة .
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من
المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه،
وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظيمًا لشأنِه،
وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه الدَّاعِي إِلى رِضْوَانِهِ،
صلِّى اللهُ عليه وعلى آلِه وَأصحابِه وَإِخْوَانِهِ وسلِّمَ تَسلِيماً كَثِيراً .
أما بعد:
أيها
المسلمون : الوقفة الخامسة : الدنيا متاع قليل حقير زائل ، لا قيمة لها عند
الله ، وهي أحقر وأقل من أن يغضب الناس من أجلها هذا الغضب ، فعن سهل بن سعد قال
كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي الحليفة فإذا هو بشاة ميتة فقال : (أَتُرَوْنَ
هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ
عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا) صحيح ـ
الصحيحة 686 و 2482 ، وفي رواية (آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ
جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا كَأْسًا) .
فلو
كانت الدنيا عزيزة عند الله لما أجاع فيها خليله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك
أحبابه وأولياءه ، ولما عاشوا فيها عيشة المساكين ، فلا تتحسروا على دنياكم ، ولا
تزدروا نعم الله عليكم ، فإن كان الله قد أخذ منكم فلقد أعطاكم كثيراً ، فاشكروا
ما عندكم من النعم ، واسألوا الله من فضله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا
إِلَى منْ أَسفَل منْكُمْ ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هَوَ فَوقَكُم فهُوَ
أَجْدرُ أَن لاَ تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَليْكُمْ ) رواه مسلم.
قال
عون بن عبدالله رحمه الله : كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني ، كنت أرى
دابة خيراً من دابتي ، وثوبا خيراً من ثوبي ، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء
فاسترحت .
قارنوا
حالكم
بحال من حولكم من دول الجوار لتعرفوا عظيم نعمة الله عليكم ... قارنوا حالكم بحال
المشردين وحال الخائفين وحال المعدمين .. لتعرفوا عظيم نعمة الله عليكم بما أبقى
لكم من النعم ، فتشتغلوا بشكره عليها بدل النوح على ما نقص منها .
والزموا الاستغفار
والتوبة ، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة واستغفار ((وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم
مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ )).
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك . اللهم اجعلنا لك ذكارين ، لك شكارين ، إليك أواهين منيبين ، تقبل يا
رب توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وأجب دعواتنا ، وثبت حجتنا ، واسلل سخائم صدورنا ،
وعافنا واعف عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ إِنّا
نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ
مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ،
وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قَلوبَاً سَلِيمَةً، وَألسَنَاً صَادِقَةً،
وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ،
وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ
إِنِّا نسْألُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ
بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، اللهم اقسم
لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن
اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما
أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، اللهم
لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط
علينا من ﻻ يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .، اللهم توفنا مسلمين وأحينا
مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات
بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها
وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك
أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا يا حي يا
قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا
اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم
واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |