فأين الله
إِنَّ الْحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ
باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ
يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن
محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))،
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ،
وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
عباد الله: عَنْ نَافِعٍ مولى عبدِالله
بنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ : خَرَجَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما فِي بَعْضِ
نَوَاحِي الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ ، فلما له وَضَعُوا سُفْرَةَ الطعام ،
مَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ ، فَسَلَّمَ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : هَلُمَّ يَا رَاعِي
، هَلُمَّ ، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ . فَقَالَ الراعي : إِنِّي صَائِمٌ ،
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ الشَدِيدِ
سُمُومُهُ ، وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذَه الْغَنَمَ ؟ . فَقَالَ الراعي
: إيْ وَاللهِ ، أُبَادِرُ أَيَّامِيَ الْخَالِيَةَ . فأُعْجِبَ به ابْنُ عُمَرَ وقَالَ
لَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أن يَخْتَبِرُ وَرَعَهُ : فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ
غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا ، وَنُعْطِيَكَ مِنْ لَحْمِهَا فَتُفْطِرَ
عَلَيْهِ ؟ . فَقَالَ الراعي : إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي
، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ : فَمَا عَسَى سَيِّدُكَ فَاعِلًا إِذَا فَقَدَهَا فَقُلْتَ
له : أَكْلَهَا الذِّئْبُ ؟ . فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ
إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ : فأَيْنَ اللهُ ... فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ
قَوْلَ الرَّاعِي ،،، يَقُولُ : قَالَ الرَّاعِي فَأَيْنَ اللهُ ، فأنا والله أحق أن
أقول فأين الله . قال نافع : فَلَمَّا قَدِمَ ابن عمر الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلَاهُ
فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمَ وَاشترى الرَّاعِي فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ ، وَوَهَبَ لَهُ
الْغَنَمَ )) .
قصة ثابتة رواها البيهقي والطبراني وحسنها الألباني .[ البيهقي في شعب الإيمان 7/223 رقم (4908) ورواه الطبراني في المعجم
الكبير ج12ص263ح (13054) قال الألباني في مختصر العلو ص75 : (( رجاله ثقات مترجمون
في التهذيب إلا شيخ الطبراني وهو ثقة مترجم في تاريخ بغداد )) ، وحسنها الألباني في
الصَّحِيحَة تحت حديث : 3161 ]
الله أكبر ،، إنها قصة قصيرة ، لكنها
تعطي انطباعاً عن حال السلف الصالحين الأولين من الصحابة والتابعين وأتباعهم أهل القرون
الفاضلة ، إنها تحكي أخلاقهم الفاضلة وحالهم مع الأمانة والمراقبة لله ، ومجاهدة النفس
على مشاقِّ الطاعة .
في هذه القصة فوائد وعبر جليلة : أولها : إكرام من قل شأنهم في المجتمع من الضعفاء ، وعدم الترفع عن دعوتهم وضيافتهم
ومشاركتهم في الطعام ، فقد دعا عبد الله بن عمر الراعي ليأكل معه ومع أصحابه ولم يأنفوا
من ذلك ولم يترفعوا . وَقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ابْغُونِي فِي
ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ ، أَوْ تُنْصَرُونَ ، بِضُعَفَائِكُمْ » حديث
صحيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، [ صححه
الألباني وغيره ] ( ابغوني في ضعفائكم ) أي
: اطلبوني واطلبوا رضاي بالإحسان إلى الضعفاء وجبر قلوبهم
ثانيها : مبادرة الأيام والليالي
وهجوم هادم اللذات ، بمجاهدة النفس على الطاعات وإن كانت صعبة ، فراعي الغنم كان صائما
في يوم شديد حرة شديدة سمومه على الرغم من أنه يعمل عملاً شاقاً ، لكنه يحتسب صومه
هذا ليتقي به حر يوم الحساب ، ويستحضر قِصَر الأعمار ، فينطق ويقول : أبادر أيامي الخالية
، وحتماً أن حلاوة الإيمان والصيام أنسته حلاوة الشراب والطعام .
ثالث الفوائد : في القصة أدب الحوار ، وحسن
الجواب .
ورابع فوائدها وعبرها : الأمانة
وما أدراكم ما الأمانة ، الأمانة التي سَتكون يومَ القيامةِ بجانب الصراط والناس يمرون
من فوقه ، فتُلْقِي في النار من خانها ولم يؤدها ،، الأمانة التي أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم : (( أَنَّها نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، وأنها سترفع من قلوبهم
في آخر الزمان )) كما في الصحيحين . الأمانة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام :
(( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة )) ، فلنلزم الأمانة أيها الناس فقد حُمِّلَها الإنسان
فَحَمَلَها ، فلا تجهلوا ولا تظلموا أنفسكم بخيانتها .
وخامساً : من أعظم دروس القصة وأظهر عبرها : أن خشيةَ الله في الغيب والشهادة ، وعظيمَ المراقبة له واستحضار علمه
وإحاطته وشهادته ورؤيته ومعيته سبحانه ، ثمرةٌ من ثمرات الإيمان الصادق ، وما أعظم
فضلها وثوابها عند الله إذ يقول سبحانه : ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ
لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )) ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ
بَعِيدٍ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ
لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) .
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل سـاعـة
ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
قال الراعي : فأين الله ، ورددها ابن عمر عليه رضوان الله ، ونحن والله أحق أن نقول : فأين الله
.. وأحق أن نربي أنفسنا وأهلينا على مراقبة الله ، في زمنٍ سهلت فيه ذنوب الخلوات
.. بحاجة أن نقوي واعظ الإيمان في قلوبنا ليصرخ الواعظ أمام المحرمات المغريات قائلاً
: فأين الله ، مستحضراً قول الله : (( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )) وقوله
: (( أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ )) ومتمثلاً مرتبة الإحسان : ( فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) ، ويعلم سرك ونجواك . فالمؤمن قد آمن برب عليم
خبير محيط سميع بصير رقيب شهيد مهيمن حفيظ .. فليتعبد لربه بمقتضى هذا الإيمان .
فاللهم اجعلنا نخشاك كأنّا نراك واملأ قلوبنا من خشيتك ومراقبتك في
السر والعلن. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الدَّائمِ توفيقُه, المتواترِ عطاؤُه وتسديدُه, وأشهدُ
أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيماً لشأنه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمّدًا
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي لِرِضْوَانِهِ، وَالْهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ،
صَلّى اللهُ عَلْيِهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسلّمَ تَسْلِيماً كَثِيْراً
إِلَى يِوْمِ لِقَائِهِ . أما بعد:
عباد الله : العبرة السادسة من القصة : العاقبةُ
الحميدة لمن اتصف بصفة الأمانة والمراقبة لله وخشيته بالغيب والتقرب إليه بعبادة الخلوات
، فلقد تمثل الراعي هذه الصفات ، فسخر الله له عبد الله بن عمر فاشتراه من سيده واشترى
الغنم فأعتقه ووهب له الغنم فأصبح حرا بعد أن كان عبدا ، وأصبح مالكا بعد أن كان مملوكا
عاملاً .. فمن عبد يرعى غنم سيده ، إلى حر
يملك مالاً كثيراً .
إنها عبرة عظمية ينبغي أن نعيها ونربي أولادنا عليها ، نربيهم على أن
: (( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه )) .
إنها قاعدة لو تعلمها أولادنا منذ الصغر لجنبتهم الكثير من الحرام في
الكبر .
لما نهى عمر رضي الله عنه في خلافته عن خلط اللبن بالماء وخرج ذات ليلة
في حواشي المدينة وأسند ظهره إلى جدار ليرتاح إذا هو يسمع امرأة تقول لابنتها : إلا
تمذقين اللبن بالماء . فقالت الجارية : كيف أمذق اللبن بالماء وقد نهى أمير المؤمنين
عن الْمذق . فقالت الأم فما يُدْرِي أمير المؤمنين عمر ، فقالت الجارية : إن كان عمر
لا يعلمه فإله عمر يعلم ، ما كنت لأفعله وقد نهى عنه . فوقعت مقالتها من عمر ، فلما
أصبح دعا ابنه عاصماً فوصف الجارية له ومكانها وقال : اذهب يا بني فتزوجها . فتزوجها
عاصم بن عمر ، فولدت له بنتاً فتزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم فأتت بعمر بن عبد
العزيز. [ٍذكرتها مختصرة وقد أخرجها أبو نعيم في الحلية كاملة فلتراجع]
فانظروا رعاكم الله لعاقبة المراقبة والخشية بالغيب ، أصبحت زوجة لابن
أمير المؤمنين وجدة للخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى.
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا،
والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيما لاينفد
وقرة عين لاتنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الممات ولذة النظر إلى وجهك
الكريم والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرو ولا فتنة مضلة يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا
بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا على
دينك، اللهم نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أحينا على الإسلام والسنة
وتوفنا عليها وأنت راضِ عنّا يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك
المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك،
ونحن غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم
وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم
خيراً على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد
المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا متين .
اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين
الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو
كره الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك
اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين
به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق يا قوي
يا متين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا
وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا
الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة
للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |