النجاح والتوفيق الحقيقي
خطبة يوم الجمعة 4/7/1433هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) ، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها الناس :
الكل منا يحب النجاح ويرجوا التوفيق ، ويسعى إلى الربح والحصول على مطلوبه وتحقق آماله وأمانيه ، وما من إنسان يحب لنفسه الفشل أو يرضى لنفسه بالخسارة .
ولكن ليعلم يا عباد الله أن النجاح والتوفيق منه ما هو دنيوي بحت ومنه ما هو دنيوي أخروي فالنجاح الدنيوي البحت نجاح منقوص ومذموم صاحبه لأن أمده قصير بالنسبة ينتهي كل شيء بموت صاحبه وعمر الإنسان قصير ، ولذا ذم الله أهل هذا النوع من النجاح فقال : ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) أي : علمهم مقصور على ظاهر ما يشاهدونه من ملاذ الدنيا وزخارفها توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها فعملوا لها وسعوا إليها لكنهم غافلون عن الآخرة لا يلتفتون إليها ولا يقصدونها بشيء من أعمالهم . وقال تعالى عل سبيل الذم والتنفير من حال هؤلاء : ((فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)) أي ليس له من نصيب في الآخرة ، لأن همه مقصور على الدنيا ، لا يريد غيرها .
ومن العجب العجاب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب ، وأنتجوا من العجائب الذرية والكهربائية والإلكترونية ، والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به وبرزوا ، فأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما وصلوا إليه وأقدرهم الله عليه ، فنظروا للآخرين بعين الاحتقار والازدراء ، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر الدين وأشدهم غفلة عن الآخرة وأقلهم معرفة بعواقب الأمور .
وأهل الإيمان والبصيرة يرون أن هؤلاء مع ما بلغوه من دقائق علوم الدنيا وأفكارها ، يرون أنهم في جهلهم بالآخرة يتخبطون ، وفي ضلالهم عن المعاد يعمهون ، وفي باطلهم يترددون ، نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الخاسرون .
فهذه الظواهر من علوم الدنيا لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقِيَّ العالي النبيل والحياة الطيبة للبشرية ، ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد واللادينية لم تثمر إلا هبوط القيم والأخلاق وجعل الإنسان لا هم له إلا شهوات جسده العاجلة ، ولم تنتج إلا أسباب الفناء والتدمير كأسلحة الدمار الشامل للعقول والبلدان .
فاحذروا يا أهل الإسلام وخاصة أنتم أيها الشباب وأنتم في أول طريق سعيكم لدنياكم ، احذروا أن تكون الدنيا هي غاية مقصودكم وأكبر همكم ومبلغ علمكم فتشبهوا حال من ذم الله ، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له .
أيها الناس : إن دينكم قد علمكم حقيقة الدنيا وقصرها وحقارتها وتفاهتها وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، ((وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)) ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) ، لقد علمكم دينكم أنكم خلفاء في هذه الأرض لتعمروها عمارة مرتبطة بتحقيق العبودية لله ((ثُمَّ جَعَلَناكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) ، لا عمارة الغافلين عن الله وعن الدار الآخرة الذين يعمرون الدنيا وكأنهم سيخلدون فيها ((يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)) .
لقد ذم الله قوم عاد على لسان نبيهم هود إذ قال لهم : ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)).
إذن يا عباد الله : القاعدة الربانية التي يعلمنا إياها ديننا: أن النجاح الحقيقي هو النجاح الذي تتخذ فيه الدنيا ونجاحاتها وسيلة ومطية لنجاح وفلاح وأرباح الآخرة .
نجاح المؤمنين لا نجاح الكافرين برب العالمين ((هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا)) .
فيا عباد الله : يُمكر ويُكاد بكم لتنخدعوا بنجاحات الكفار الدنيوية وصناعاتهم ومخترعاتهم ونظم حياتهم ودقائق علومهم المادية ، لتجعلوها هي سبب التقدم والرقي ، وتنظروا لقيمكم ومبادئكم ومعتقدات دينكم وتشريعاته بأنها هي سبب التخلف والتأخر فتتخلوا عنها ، هكذا يراد لكم وهي حيلة ماكرة تستثار بها الأهواء والشهوات والرغبات العاجلة ((فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) ، ((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) فالواجب علينا أهل الإيمان إن أردنا النجاح الحقيقي أن نجمع بين النجاحين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة ليكمل لنا النجاح والفلاح ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) وأن نسعى بكل الوسائل المتاحة لنا إلى تحقيق الغاية من خلقنا ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين إنك أنت الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظيمًا لشأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه الدَّاعِي إِلى رِضْوَانِهِ، صلِّى اللهُ عليه وعلى آلِه وَأصحابِه وَإِخْوَانِهِ وسلِّمَ تَسلِيماً كَثِيراً . أما بعد
أيها الناس : القاعدة الربانية الشرعية القائلة ( إن النجاح الحقيقي هو النجاح الذي تتخذ فيه الدنيا ونجاحاتها وعلومها وسيلة ومطية لتحقيق العبودية لله وإقامة توحيده ودينه وشريعته في حياة الناس ، وبالتالي يتحقق النجاح والفلاح والربح في الآخرة ) قد قرر الله تعالى هذه القاعدة في سورة قصيرة قال الإمام الشافعي رحمه الله عنها : لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم .
إنها سورة العصر : بسم الله الرحمن الرحيم ((وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) يقسم الله بالزمان الذي هو الحياة على أن جميع بني الإنسان خاسرون فاشلون غير ناجحين ولا موفقين ولا رابحين . إلا أهل الإيمان الذين جعلوا الزمان وسيلة ومطية لطلب مرضاة الرحمن بالعمل الصالح والدعوة إليه والصبر عليه .
فالإيمان بالله ربا وخالقا ورازقا ومدبرا وإلها مستحقا للعبادة هو أول أسباب النجاح والتوفيق والفلاح في الدنيا والآخرة ، وهو موضوع خطبتنا القادمة إن شاء الله .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وفقهاً في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم افتح لنا من خزائن رحمتك وتوفيقك يا خير الفاتحين، اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين في الشام، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، واقض الدين عن المدنين، اللهم لا تقتلنا بعذابك ولا تهلكنا بغضبك وعافنا بين ذلك، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وتولّ أمرنا وأصلح أعمالنا وأحوالنا وقلوبنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|