ما بعد رمضان
الحمد لله الذي شرّف المؤمنين بطاعته ورفع رؤوسهم بحمل دينه والاستجابة لأمره ونهيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإن تقواه أفضل مُكتَسب وطاعته أعلى نسب، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، مضَى رمضانُ وانقضَى بلياليه الزاهرة وأيّامِه العامرَة وأجوائه العاطِرَة واستيقَظتِ القلوبُ بعد غَفوة، ولانَت بعدَ قَسوةٍ، ورَجعت بعد سَهوة، أمّا القَبول فعلاماتُه لامحة وأماراتُه لائِحة وآياتُه واضحة، حسنة تتبعها حسَنة، وطاعة تؤكِّدها طاعة، وإحسان يتلوه إحسان، وذاكَ دَأب العارفين بالله، الخائِفين من سَطوتِه وعقوبَتِه، الراجين لثوابِه وجنَّته، الذين قوِيَت محبتهم لله عزّ وجلّ ومحبّتُهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأخبتت نفوسُهم لله وسكنت، ورضِيَت به واطمأنَّت، (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[الزمر: 18].
وأمّا من انحلَّت أطنابُه، ووهَت أركانه، وانعَكس سَيرُه بعد رمضان، فأبطَلَ ما قدَّم، ونقض ما أحكَم، وبدَّل الحسناتِ بالسّيئات، وحارَ بعدما كار، وأرخَى لنفسِه العَنان، وعاد إلى الفُسوق والعِصيان، فذاك الخاسِر المغبون والغاوِي المفتونُ الذي أذهَب بهاءَ طاعته وأحبط أجرَ عبادته.
أيها الناس تدبروا في هذه الآية المباركة يقول الله جلَّ في علاه: (( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)) [البقرة: 266]، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يومًا لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فيمَ تَرونَ هذه الآيةَ نزلت: ((أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ))؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ضُرِبت مثلاً لعمَل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمَلٍ، قال عمر: لِرجلٍ غنيّ يعمل بطاعة الله عز وجل ثمّ بعث الله له الشيطان، فعَمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. أخرجه البخاري. وروى الطبراني بسنده عن قتادة في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)) [محمد: 33]، قال: "من استطاعَ منكم أن لا يبطِلَ عملاً صالحًا عمِلَه بعمل سيّئ فليفعل". إنَّ الخير ينسَخ الشرَّ، وإن الشرَّ ينسَخ الخير، وإنَّ ملاك الأعمال خواتيمُها، قال جل في عُلاه: ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا))[النحل: 92]، امرأةٌ حمقاء خَرقاء مُلتاثة العقل تجهَد صباحَ مساءَ في معالجة صوفِها، حتى إذا صار خَيطًا سَويًّا ومحكمًا قويًّا عادت عليه تحلّ شُعَيراته، وتنقُض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعدَ الصّلاحِ محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاَّ الإرهاقَ والمشاقَّ، فإيَّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم وتبدِّدوا ما جمعتم.
أيّها المسلمون، داوموا على ما اعتدتم من الخيرِ في رمضان، ولا تنقطِعوا عنه، وخذُوا من العَمَل ما تطيقون ملازَمَته والثباتَ عليه ولو كان قليلاً، فالقليل الدّائم ينمو ويزكُو، وبِدوام القليلِ يدومُ التعبّد لله والذلّ له والأُنس به والقربُ منه والإقبالُ عليه، والكثيرُ الشّاقُّ ينقطِع ولا يدوم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يا أيُّها الناس، عَليكم من الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإنَّ الله لا يملُّ حتى تملّوا، وإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه وإن قلَّ))، وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عمِلوا عملاً أثبتوه. متفق عليه. وعن علقمةَ قال: سألتُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين، كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخصُّ شيئًا من الأيّام؟ قالت: لا، كان عمله دِيمة، وأيُّكم يستطيع ما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟! أخرجه مسلم. وقال القاسم بن محمد: وكانت عائشةُ إذا عمِلت العملَ لزِمته. أخرجَه مسلم. وكرِه أهلُ العِلم الانقطاعَ عنِ العمل الصالحِ بعد الاعتيادِ عليه استنباطًا من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدَ الله، لا تكُن مثلَ فلان؛ كان يقوم منَ الليل فترَك قيامَ الليل)) متفق عليه.
أيّها المسلمون، النّفسُ مطيّة، يحول بينَها وبينَ السَّير إلى الله تعالى خَطفَات الفِتَن وعقبات الشّهوَة، بَيدَ أنَّ صبرَ ساعة وشجاعةَ نَفس وثبات قَلب تفضي بالعبد إلى قَطع الطريق واقتحام عقبته وبلوغ خلّته والخروج من الموطِن الغَثّ والأرضِ الوَخيمة والوصول إلى المنازل والمناهل والمراتع والمرابِع والأمانِ والضمان، فزمّوا المطيّة واخطُموها، وقودوها وازجروها، وتعاهَدوها وأصلِحوها، وتزوَّدوا للنُّقلة، وخذوا الأُهبة للرّحلة، وسدِّدوا وقاربوا وأبشِروا، واستعِينوا بالغَدوةِ والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنة، ونفعني وإيّاكم بما فيه من البيّنات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة: 119].
أيُّها المسلمون اعلموا أن الشارع الحكيم قد سنّ لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله))[رواه مسلم] ومن حكمة شرعية هذه الست ترقيع الخلل والنقص الذي حصل للصائم في رمضان وهذا من رحمة مولانا بنا إنه حكيم خبير.
ووجه كون صيام الست بعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله جل وعلا جعل الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله: ((مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) [الأنعام:160]. فصيام رمضان يُعدُّ مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فيتحصَّل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة.
والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحَّة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سنة وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سُنة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له، وإن لم يصمها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً)) ،كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله، وبذلك يكون المرء كأنما صام عاماً بأكمله.
أيُّها المسلمون: إن العبرة بدخول شهر رمضان وخروجه حددها الشارع الحكيم برؤية الهلال ففي الحديث (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) والمراد بالرؤية الرؤية بالعين المجردة لا بالحسابات الفلكية ولا بالمراصد , ولا يجوز تشكيك الناس بالعبادة من حيث دخول الشهر أو خروجه مادام ولي الأمر – حفظه الله – ارتضى أناس موثوقوين بعلمهم وديانتهم وهم المحكمة العليا وجعل الأمر يصدر منهم برؤية العدول فنحن بحمد الله مكفيين , بل حتى لو ثبت أنهم أخطأوا في الرؤية – وهم مجتهدون في ذلك - فلا يجوز الجرح ولا الانتقاص منهم كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم (( الصوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس )) وأيضاً من معاني الشهر ما اشتهر عند الناس رؤيته كيف والحق معهم .
ثمّ اعلموا أن من أفضل القربات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة أصحابِ السنة المتَّبعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصّحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وعنا معهم بمنّك وفضلك وجودِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لرضاك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم فرّج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين وفك أسر المأسورين واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين. وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم انج المستضعفين من المؤمنين، اللهم كن لهم عوناً ونصيراً ، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الحفيظ العليم أن تحقن دماء المسلمين في كل أرض يراق فيه دم مسلم، اللهم احقن دماء المسلمين يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|