ماذا بعد رمضان
الحمد لله القوي الجبار ، العزيز الغفار ، مكور النهار على الليل ، ومكور الليل على النهار } يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ {
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار ، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الليل والنهار .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، فإن تقوى الله سبحانه ، هي وصيته لخلقه الأولين والآخرين ، يقول U من قائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله يا عباد الله ، اسأله U أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
وينتهي شهر رمضان ، راحلا بما أودع من أعمال ، وكما قال القائل :
يا لائمي في البكا زدني به كلفا
واسمع غريب أحاديث وأخبارِ
ما كان أحسننا والشمل مجتمع
منا المصلي ومنا القانت القارى
وفي التراويح للرحات جامعة
فيها المصابيح تزهو مثل أزهار
شهر به ليلة القدر التي شرفت
حقا على كل شهر ذات أسرار
تنزَّل الروح والأملاك قاطبة
بإذن رب غفور خالق بارى
شهر به يعتق الله العصاة وقد
أشفوا على جرف من حصة النار
اسأله U أن يجعلنا جميعا ، من الذين أعتقت رقابهم في رمضان من النار .
فرمضان ـ أيها الأخوة ـ قد انتهى ورحل ، ولكن ماذا بعد رمضان ؟
لا شك ـ معشر الأحبة ـ أن شهر رمضان ، مدرسة يتخرج منها من وفقه الله ، ومن أراد به خيرا سبحانه ، وكما قال U : } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { فينبغي للمسلم ـ أيها الأخوة ـ أن يكون لرمضان دورا في حياته ، وفي تصحيح وضعه مع الله سبحانه ، وكما قال أحد السلف عندما سأل عن قوم يتعبدون ، ويجتهدون في رمضان ، فإذا خرج رمضان تركوا العبادة والاجتهاد ، فقال : بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان !
فرمضان ـ أيها الأخوة ـ مدرسة لأعمال مهمة ، ينبغي للمسلم أن يحرص عليها ، لأنها تقربه من الله U ، وتكون سببا لدخوله الجنة والنجاة من النار ، فالصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها مع المسلمين في بيوت الله ، مطلوبة من المسلم في رمضان وفي غيره من شهور العام ، يقول تبارك وتعالى : } إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا { يقول ابن سعدي في تفسيره : أي مفروضا في وقته ، ويقول النبي r في الحديث الصحيح : (( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب U : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على ذلك )) وفي رواية ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة : (( فإن قبلت منه قبل سائر عمله ، وإن ردت عليه رد سائر عمله )) ومن تمام كمالها ، ووسائل قبولها أن تكون في أوقاتها وفي أماكنها التي جعل الله U لها .
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ الصيام ، الذي لا يعرفه بعض الناس إلا في رمضان ، فتأتي عليه الشهور والأيام ولم يصم يوما واحدا ، وفي الحديث الذي رواه النسائي عن أبي هريرة t ، يقول النبي r : (( من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا )) وكذلك ـ أيها الأخوة ـ قيام الليل ، الذي هو شرف المؤمن ، وعادة من أراد الله والدار الآخرة ، يقول U عن عباده المحسنين : } كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ { يقول ابن سعدي في تفسيره : أي : كان هجوعهم أي : نومهم بالليل ، قليلا وأما أكثر الليل ، فإنهم قانتون لربهم ، ما بين صلاة ، وقراءة ، وذكر ، ودعاء ، وتضرع . يعني يفعلون مثل ما يفعل أكثرنا في ليالي رمضان ولكنهم يفعلونه في عمرهم كله ، بل ويحبون الدنيا من أجله ! هذه الدنيا التي نحبها من أجل متعنا وشهواتنا ، ومن أجل مراكزنا وأبنائنا وزوجاتنا ، كانوا يحبونها من أجل العبادة ، وتذرف دموعهم لفقد الطاعة !
معاذ t عند موته يبكي بكاء شديدا ، ويقول : اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا ، لا لغرس الأشجار ، ولا لجري الأنهار ، إنما أبكي لظمأ الهواجر ، وقيام الليالي المظلمة ، ومزاحمة العلماء بالركب ، ومجالسة أناس ينتقون أطايب الكلام ، كما ينتقى أطايب الثمر .
وأحد الصالحين بكى عند موته فقيل له ما يبكيك ؟ فقال : أبكي على أن يصلي المصلون ولست فيهم ، وأن يصوم الصائمون ولست فيهم ، ويذكر الذاكرون ولست فيهم .
فلا بد ـ أيها الأخوة ـ أن نكون قد استفدنا من رمضان ، بالمحافظة على مثل هذه الأعمال .
اسأل الله U أن يمن علينا ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن العبادات العظيمة ، التي تقرب إلى الله U ، وكنا نفعله في رمضان ، وينبغي لنا أن نحافظ عليه : تلاوة كتاب الله U ، لأن في كل حرف نقرأه حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، كما قال النبي r في الحديث الحسن : (( من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنه ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : } الم { حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف )) ، ففي } الم { ثلاثون حسنة حسب قول النبي r ، والله لو كان الحرف بريال ، لما فترت ألسنتنا من ذلك !!!
فلنحرص على تلاوة كتاب الله ، بغية الأجر من الله ، كما كنا في شهر رمضان .
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ الإحسان إلى الفقراء والمساكين ، وإطعام الطعام ، وحسن الخلق ، فهذه الأمور مطلوبة من المسلم حتى في غير رمضان ، وبها تثقل الموازين يوم القيامة ، والله يقول : } فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
وليكن لنا درس وعبرة في انتهاء شهر رمضان ، بأن هذا الشهر قد مر من أعمارنا ، وقد دنونا من آجالنا بمقدار شهر كامل ، فالذي بقي على أجله شهر وأيام ، فقد مضى الشهر وبقيت فقط الأيام ، فلنستعد للرحيل ، لأن الاستعداد للرحيل ركن من أركان التقوى ، التي هي ثمرة الصيام كما جاء في الآية ، وأركان التقوى هي : الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والرضا بالقليل ، والاستعداد للرحيل ، كما عرفها الصحابي الجليل والخليفة الراشد علي ابن أبي طالب t ، فالذي لم تكتمل عنده هذه الأركان الأربعة ، فقد تكون فائدته من صيامه وقيامه الجوع والعطش نسأل الله السلامة والعافية .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحافظ على ما اعتدنا عليه من أعمال صالحة ، وقربات نافعة ، ففي الحديث الصحيح يقول النبي r : (( أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل )) وكما قيل : قليل دائم خير من كثير منقطع .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، وان يفقهنا جميعا في هذا الدين ، وأن يجعلنا من عباده الصالحين ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك مغفرة ذنوبنا ، وستر عيوبنا ، وعتق رقابنا من النار ، اللهم لا تجعلنا من الخاسرين ، ولا المحرومين من رحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم من علينا بمحبتك ، ومحبة كل عمل يقربنا منك ، ويرضيك عنا يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويهدى فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، يا سميع الدعاء . اللهم آمن المسلمين في أوطانهم ، واستعمل عليهم خيارهم ، ووفق ولاتهم لما تحب وترضى .
اللهم احقن دماءهم ، وآمن روعاتهم ، واكشف كرباتهم ، واجعلهم في بلادهم آمنين مطمئنين ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
.] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ .
عباد الله :
] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |