الأُضْحِيَةُ والهَدْيُ والحَجُّ مِنْ شَعائِرِ اللهِ، والتَحْذيرُ مِن تعريضِ النَّفْسِ للمشقَّةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
اتقوا
الله تعالى، وعظموا شعائرَه، فإن ذلك من تقوى القلوب.
ومن أعظمِ شعائر الله: ذبحُ الهَدْيِ والأضاحي.
والأُضْحِيَةُ:
ما يُذْبَحُ من بهيمةِ الأنعامِ أيامَ الأضحى بسبب العيد، تَقَرُّباً إلى اللهِ
عَزَّ وجَل. وقد قُرِنَ الذبحُ بالصلاةِ لعِظَم شأنِه، قال تعالى: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ). وقال تعالى:( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ ). فَدَلَّ ذلك على أن الذبحَ لِغيرِ اللهِ، كالسجودِ لغيرِ
الله. فَمَن ذَبَحَ عند القُبورِ والأَضْرِحَةِ، أيًّا كان أصحابُها، طَلَباً
لِمَنْفَعَةٍ يَحْصُلُ عليها. أو ذَبَحَ لِلجِنِّ رَجاءَ نَفْعِهِم أو تَخَلُّصاً
مِن شرِّهِم. فهو مشرك، وهو بِمَنْزِلةِ مَن سَجَدَ للأوثان.
عباد الله: إِن مِن تعظيمِ شعائِرِ الله أداءَها على الوجهِ
الشرعي. والأضاحي: مِنْ أعظمِ شعائرِ الله، بَلْ إن قولَه تعالى: ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن
تَقْوَى الْقُلُوبِ) جاءَ في سياقِ ذِكْرِ مَناسِكِ الحَجِّ وذَبْحِ
الهَدْيِ والأضاحي، فالْمُعَظِّمُ لها يُبَرْهِنُ على تَقْواهُ وصِحَّةِ إيمانِه،
لأن تَعْظِيمَها، تابِعٌ لِتَعظيمِ اللهِ وإجلالِه.
ومَنْ تَأَمَّلَ شأنَ الأُضْحِيَةِ رأى العَجَبَ في أحكامِها، وأنه
لا يَنْبَغِي التهاوُنُ في شأنِها: ولذلكَ أُمِرَ مَنْ أرادَ أنْ يُضَحِّيَ بالإمساكِ عن شعرِهِ
وأظفارِه، وأُمِرَ أن لا يُضَحِّيَ إلا بالأضحيةِ التي تَوَفَّرَت فيها الشروطُ
الْمُعتَبَرة. وإذا اشترى الأُضْحِيةَ وعَيَّنَها فإنه لا يَجوزُ أن يَعْدِلَ إلى
غيرِها ما لَمْ تَتَعيَّب. وكذلك لا يجوزُ ذَبْحُها إلا في الوقتِ الْمُحَدَّدِ
شرعاً، وبدايَتُه بعد صلاةِ العيد، ونهايَتُه بِغُروبِ اليومِ الثالثِ عَشَر.
وأيضاً يَحْرُمُ على الْمُضَحِّي أن يبيعَ شيئا من أُضْحِيَته مِنْ لَحْمٍ أو شَحْمٍ
أو دُهْنٍ أو جِلْدٍ أو غيرِه، لأنها مالٌ أَخْرَجَهُ لله، فلا يجوزُ الرجوعُ فيه
كالصدقة، ولا يُعْطِي الجزارَ شيئا منها في مُقابِلِ أجرتِه أو بعضِها، لأن ذلك
بمعنى البيع، إلا إذا أعطاه مِن بابِ الهدية. وكذلك لا يجوز لِعُمَّالِ
الْمَسالِخِ أو الأمانةِ القائمةِ على أعمالِ الْمسالخ اشتراطُ أخْذِ شيءٍ مِن
الأضاحي، حتى الجلود، إلا إذا تَرَكَها صاحبُها من قِبَلِ نفسه.
كُلُّ
ذلكَ تعْظِيما لهذِه الشعيرَةِ العظيمة. ومَعَ هذا كُلِّه ترى مِنَ الْمُسلِمين من
لا يعتَني بذلك، ويَتَهَرَّبُ مِنْ أوامِرِ اللهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بها، ويَتَتَبَّعُ رُخَصَ الفقهاء في ذلك: فلا يُمْسِك عن شعرِه وأظفارِه، ولا يُراعي
الشروطَ الْمُعْتَبَرَة، وليسَ لأُضْحِيَتِه وَقْعٌ في نَفْسِه، بل كأنَها شاةُ
لَحْمٍ كَغَيرِها مِن الذبائِحِ، لا مَزِيَّةَ لها عن غيرِها، حتى آلَ الأمْرُ إلى
الإكتفاءِ بالقسائِمِ التي تُدْفَعُ للمؤسساتِ والجمعياتِ. وهذا مِنْ علاماتِ
نَقْصِ الإيمانِ ونَقْصِ التقوى في القلوبِ. وأما مَنْ اضْطُرَّ إلى الإستعانَةِ
بالْمؤسساتِ والجمعياتِ لِظَرْفٍ طارئٍ خاصٍّ، فالضرورةُ لها حُكْمُها وتُقَّدَّرُ
بِقَدْرها.
وليس الأمرُ بِتَتَبُّعِ رُخَصِ الفقهاء يا
عِبادَ اللهِ في زَمانِنا هذا خاصًّا بالأُضحيةِ مع الأسَف، بلْ آلَ
الأمْرُ مع هذا الانفتاحِ الخطيرِ الذي نعيشُه، إلى أنْ جُعِلت التكاليفُ
الشَّرعيةُ، باباً واسِعاً للمُتَلَقِّين، تُعْرَضُ لَهُمْ عَبْرَ الفتاوى عَرْضَ
الكاتالُوجاتِ في المتاجِر والمطاعِمِ والبوفيهات. يَختارُ مِنها الشخصُ ما
يُوافِقُ هواه واسْتِحساناتِه. إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْ عبادِه الْمُتَّقينَ
الذين جَعَلُوا الحَقَّ الْمَأخوذَ من الكتابِ والسنةِ ضالَّتَهُم، يَدورون معهُ
حيثُ دار، سواءً وافقَ أهواءَهُمْ أو خالَفها. قال سليمان التَّيميُّ رحمه
الله: " لَو أَخَذْتَ بِرُخْصةِ كُّلِّ عالِمٍ، اجْتَمَعَ فيك
الشّرُّ كُلُّه ". وهذا الكلامُ مِن هذا الإمامِ يا عبادَ اللهِ، إنما هو في
شأْنِ تَتَبُّعِ رُخَصِ العلماءِ. فكَيفَ بِمَن تَتَبَّعَ كلامَ مَن هَبَّ ودَبّ،
نسألُ اللهَ العافيةَ والهداية.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً
لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ: لَقَدْ مَيَّزَّ اللهُ شَهْرَ ذِي الحِجَّةِ، بِأَنْ خَصَّهُ بِشَعِيرَةِ عَظِيمَةٍ، ورُكْنٍ مِن أركانِ الإسلامِ الخمْسَةِ، ألا وهو الحَجّ. فَهُوَ أحدُ أركانِ الإسلامِ ومبانِيهِ العِظامِ, وهو واجب ٌعلى الفَوْرِ على كُلِّ مسلم حُرٍّ بالِغٍ مُستطيعٍ. فَمَنْ لَمْ يَحْجْ مِن المسلمين البالِغينَ القادِرِين فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ. يَقُولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( تَعَجّلُوا إلى الْحَجّ فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَدْرِي ما يَعْرِضُ له ). وَوَرَدَ في فَضْلِ الحَجِّ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ, مِنْها: قَوْلُه صلى اللهُ عليه وسلم: ( من حَج فَلَمْ يَرْفُث وَلَمْ يَفْسقْ رَجَعَ مِن ذُنُوبِه كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّه ). وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( تابِعُوا بين الحَجِّ والعمرةِ فإنَّهما يَنْفِيان الفَقْرِ والذنوبَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضة ). وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرادَ الحَجَّ، أَنْ يَتَفَقَّهَ في أَحْكامِهِ، وَيَسْأَلَ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وأَنْ يَصُونَهُ عَنْ الذُّنُوبِ والمَعَاصِي.
وَيَنْبَغِي لِلحاجِّ أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ الحَجَّ في الصَّيفِ فِيهِ مَشَقَّةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَوَقَّى حَرَّ الشَّمْسِ، وأَنْ لا يَتَساهَلَ في ذلك، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِمَا يَضُرُّها بِحُجَّةِ زِيادَةِ الثَّوابِ، فَإنَّ النبِيَّ صلى اللهُ عَليه وسلم نَهَى عَنْ طَلَبِ المَشَقَّةِ فِي الإِتْيانِ بِالحَجِّ, فَقَدْ رَأَى رَجُلًا يُهادَى بِيْنَ ابْنَيْهِ، فَقال: ( مَا بالُ هذا؟ )، قالُوا: نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ ماشِيًا، فَقال: ( مُرُوهُ فَلْيَرْكَبْ، فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هذا نَفْسَه ).
اللَّهُمَّ عَلِّمِنا مَا يَنفَعُنا وانفعْنا بِما
عَلَّمْتنا وَفَقِّهْنا فِـي دِينِك يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهُمَّ
أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ استعملنا في
طاعتِك، وثَبِّتْنا على دينِك، وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا،
وخَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك وتوفَّنَا مسلِمِين
وألْحِقْنا بالصالحينَ، اللهُمَّ يَسِّرْ للحجيجِ حَجَّهُمْ، واحفَظْهُم من كلِّ
مكروهٍ، ورُدَّهُم إلى أهلِهم وأوطانِهم سالِمين غانِمين، اللهُمَّ اجعلْ حَجَّهُم
مبروراً، وسَعْيَهم مشكوراً، وذَنْبَهُم مغفوراً يا ذا الجلالِ والإِكرامِ،
اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على
المسلمينَ رحمةً عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ
كلمةَ المسلمين على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهم
أعزَّ الإسلامَ والْمُسلِمينَ وأذلَّ الشركَ والْمُشركينَ، ودمِّر أعداءَ الدينِ،
واحمِ حوزةَ الدينِ يا ربَّ العالمينَ ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلحْ
أَئِمَّتَنَا وولاةَ أمورِنا ، واجعلْ وُلَايَتَنا فيمنْ خافَك واتَّقاك واتَّبعَ
رضاك يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ لها، وأَعِذْهَا من
شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ، اللهُمَّ احفظْ لبلادِنا دينَها وأمنَها
وعِزَّتَها وعقيدتَها وسيادَتَها، يا أرحمَ الراحمينَ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ
والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ
مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة عن
موسم الحج والأضحية تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=130