السلامةُ مِن مَظالِمِ العِبادِ وحُقُوقِهِم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى وراقِبُوه, واستَعِدُّوا قَبْلَ المَوْتِ لِمَا بَعْدَ المَوْت, واعلَمُوا أنَّ مِنْ أعْظَمِ الاستِعدادِ, أن يَلْقَى العبدُ رَبَّه وليسَ عليهِ مَظْلَمَةٌ أو حَقٌّ لأحد. فإنَّ حُقُوقَ العِبادِ ضَرَرُها كبيرٌ على العبدِ, ويَكْفِي أنَّها لا تُكَفِّرُها الحسناتُ الماحيةُ والعياذُ بالله. ولا يُكَفِّرُها إلا التوبةُ النصوحُ المَقْرونَةُ بما يَدُّلُّ على تَخَلُّصِهِ مِن حَقِّ أخيه. فَكُونُوا على حَذَرٍ شَدِيدٍ, وجاهِدوا أنفُسَكُم, وَوَطِّنُوها على الخَوْفِ مِنْ هذا الأمْرِ العَظيم, وابْذُلُوا أسبابَ السلامَةِ من ذلك, والتي مِنها:
أولاً: أنْ يَتَذَكَّرَ العبدُ أنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامة. والمُؤْمِنُ أحوجُ ما يكونُ إلى النورِ يومَ القيامة, خُصُوصاً حينما يُضْرَبُ الجِسْرُ على مَتْنِ جهنمَ لِيَمُرَ الناسُ, وقَدْ ذَهَبَ نورُ حسناتِه, أو ضَعُفَ بَسَببِ مَظالِم العبادِ التي على ظَهْرِه.
ومِنْ ذلك: أن يَتَذكَّرَ العَبْدُ بِأنَّ دُعاءَ المَظلومِ مُسْتَجاب.
ومِنْ ذلكَ: أن يتَذَكّرَ العبدُ بأن حُقُوقَ العِبادِ لا تُتْرَكُ يومَ القيامة, وأنها تَذْهَبُ بِحَسَناتِه التي تَعِبَ في جَمْعِها. وقَد دَلَّت الأدلةُ على أَنَّ أذيةَ المسلمين, مِن أعظمِ ما يقضي على حسناتِ المَرْءِ في الآخرة. قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إن المُفْلسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بِصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قَدْ شَتَم هذا، وقَذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. فَيُعْطِى هذا مِن حسناتِه وهذا مِن حسناتِه, فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه، قَبْلَ أن يُقْضَى ما عليه، أُخِذَ مِن خطاياهُم فَطُرِحَت عليه. ثم طُرِحَ في النار ). حتى لو كان المَظْلُومُ أقربَ قريب, قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه, في تفسيرِ قولِه تعالى: ( فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ). قال: " يُؤْخَذُ بيد العبدِ أو الأَمَةِ يومَ القيامة, فيُنادَى بِه على رُؤوسِ الخلائِق, هذا فُلانُ بنُ فُلان, مَنْ كان له عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأتِ إلى حَقِّه, فَتَفْرَحُ المَرأَةُ أن يكونَ لَها حَقٌّ على أبِيها أو أخِيها, أو زوجِها. ثم قرَأَ: ( فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ). حتى لو كانَ الحَقُّ في الأمورِ المُباحة, ولذلك قال عليه الصلاةُ والسلام: ( يُغْفَرُ للشهيدِ مِنْ أوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ إلا الدَّيْن ). وهذا دليلٌ واضحٌ على أن حُقُوقَ العبادِ لا تُكَفِّرُها الحسناتُ الماحِيَة.
ومِنْ ذلك: أن يَتَذَكَّرَ العبدُ بأن الإيمانَ لا يَكْتَمِل, والإسلامَ لا يَكونُ حَسَناً, حتى يُحِبَ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسِه, وحتى يَسْلَمَ المسلمون من لِسانِه ويدِه. كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يُؤمنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه ), وقال أيضاً: ( المسلمُ مَنْ سَلِمَ المُسلمونَ مِن لسانِهِ ويدِه ).
وَمِنْ ذلك: أنْ يَتَذَكَّرَ العبدُ بأنَّ الجزاءَ مِنْ جنْسِ العمل, فقد دَلَّت الأدلَّةُ على أَنَّ الجَزاءَ يَكونُ مُمَاثِلاً لِلعملِ مِنْ جِنْسِهِ في الخَيرِ والشرِّ, فَمَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ الله, وَمَنْ قَطَعَها قَطَعَهُ الله. وَمنْ أخَذ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه, ومَنْ أخَذَها يُريدُ إتلافَها أتْلَفَهُ الله. ومَنْ عَفَا عَنِ الناسِ أعَزَّهُ اللهُ وعَفَا عنه, ومَنْ تَواضَعَ للهِ رَفَعَه, ومَنْ تَكَبَّر على الخلقِ أَذَلَّهُ اللهُ يومَ القيامةِ وَوَضَعَه, وَمَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أخيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه وَفَضَحَه, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِما سَتَرَه الله. فَهَذا شَرْعُ اللهِ وقَدَرُهُ وَوَحْيُه وثَوابُه وعِقابُه, كُلُّه قائمٌ بِهذا الأصل, وهو إِلْحاقُ النَّظِيرِ بالنَّظِيرِ, واعْتِبارُ المِثْلِ بالمِثْل.
ومِن ذلك: أنْ يَعْتَبِرَ المُسلِمُ بِما أخْبَرَ بِهِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم, فيما يَتَعَلّقُ بِظُلْمِ البهائِمِ والحَيَوانات, فإن النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ, رأى النارَ, ورأى صاحِبَةَ الهِرَّةِ, التي حَبَستْها, فلا هي أطْعَمَتْها, ولا أخْرَجَتْها تأكلُ مِنْ خَشاشِ الأرض. فَكيفَ بِمَنْ يَظْلِمُ المُسلمَ ولا يَرى له حُرْمَه, مَعَ العِلم, أن كُلَّ المُسْلِمِ على المسلمِ حرام, دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: إنَّ الدعاءَ مِنْ أعْظَمِ ما يعينُ المَرءَ على السلامةِ من الظلمِ, والإضرارِ بالناسِ, سواءً كان بِقَصْدِ أو غيرِ قَصْد. فينبغي للمسلمِ أن يُكْثِرَ مِن سؤالِ ربِّه أن يُجَنِّبَه الظُلْمَ, وأن يُعِيذَه من شَرِّ نَفْسِه, أو أن يَجُرَّ السوءَ لإخوانِه.
وَمِنْ أفْضَلِ الأدعيةِ في ذلك: ما يُقالُ في أورادِ الصباحِ والمساءِ, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت, أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ الرجيم وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا, أو أجُرَّه إلى مسلم ). فاحْرِصْ أيُّها المسلمُ على هذا الذِّكْرِ في الصباحِ والمساء, فإنه يُعِينُكَ بإذن اللهِ, بَلْ إنَّه يفيدُ العائِنَ أيضاً. لأنَّ العينَ حقٌّ, والشَّخْصُ قَدْ يَضُرُّ أخاه بِسَبَبِ النَّظْرة, سواءً بِقَصْدِ أو غَيْرِ قَصْد, فيَنْبَغِي أن يُواظِبَ على هذا الذِّكْرِ في الصباحِ والمساء, لَعَلَّه يَسْلَمُ مِن إيصالِ الضَّرَرِ لإخوانِه.
اللهم أعِذنا من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا, واجعلنا هداةً مُهتدين, مفاتيحَ للخير, مَغاليقَ للشر، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|