التوبة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, وحاسِبوا أنفُسَكُم قبلَ أنْ تُحاسَبُوا, واستَعِدُّوا قَبْلَ المَوْتِ لِما بعدَ الموت, فإِنَّكُم ما خَرَجْتُم مِنْ بُطُونِ أمهاتِكم إلا مِنْ أَجْلِ عِبادَةِ الله. واعْلَمُوا أنَّ اللهَ تعالى أرْحَمُ مِن الوالدَةِ بِوَلَدِها, وأَنَّ مِنْ رَحْمَتِه: أَنْ فَتَحَ لِعِبادِهِ بابَاً عَظيماً, لا يَمْتَنِعُ مِن دُخُولِهِ إلا خاسِرٌ ومَحْروم. ألا وَهُو بابُ التوبةُ. فإنها واجِبَةٌ على المُكَلَّفِ, وَبابُها مفتوحٌ إلى أنْ تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ مغْرِبِها, أوْ يُعايِنَ العَبْدُ المَوْت. مهما بَلَغَتْ ذُنُوبُ العبدِ وكَثُرَتْ وكَبُرَتْ. وهذا مِنْ سَعَةِ رحمةِ الله. فَتَأمَّلُوا يا عبادَ الله, لَوْ لمْ يَفْتَحِ اللهُ هذا البابَ لِعِبادِه, كيفَ سَتَكونُ حالُهُم؟, وكيف يَطيبُ عَيْشُهُم؟!!!. وكيفَ ستَكونُ حالُ المؤمِنِ الذي حَمَلَ هَمَّ الآخرةِ في قلبِه, إذا كان بابُ التوبةِ والاستِغفار مُغْلَقاً؟. لا يُسْتَبْعَدُ عليه أنْ يَتَمنَّى قَبْضَ روحِه, كيْ لا تَكْثُرَ ذنوبُه, لأن العبدَ لا يَسْلَمُ مِنَ الذنوبِ, ولا يَسْلَمُ مِنَ التقصير.
وهكذا العبدُ العاصِي الذي يبحَثُ عن التوبةِ والخلاص, لَوْ لَمْ يُفْتَحْ له بابُ التوبةِ والاستِغْفار, كيفَ سَتَكونُ حالُه. لا يُسْتَبَعَدُ أن يَزدادَ مِنْ الذُّنوبِ والفُجُور, والظُّلْمِ والأذِيَّة, لأنه لا تَوبَةَ له. ويَدُلُّ على ذلك قِصَّةُ الرَّجُلِ الذي قَتَلَ تِسْعَةً وتسعين نفساً, ثمَّ أرادَ أنْ يتوب, فإنه لمَّا قال له العابِدُ: " ليس لك توبة ". كَمَّلَ به المائة. لأنه أَيِسَ من التوبة. ولوْ لَمْ يَلْقَ العالمَ الذي بَشَّرَه بِأنَّ التوبةَ تُقبَلُ مِن التائِبِ مهما بلغَتْ ذنوبُهُ. لَمْ يَتَوَقَّفْ عن القَتْلِ والجريمَة.
فيا عبادَ الله: لا تَنْسَوا أن اللهَ تعالى, نادَى عِبادَه المُسْرِفِين, المُكثِرينَ من الذنوبِ والمعاصِي, بِقَولِه: " يَا عِبَادِيَ ", وأمَرَهُم بالتوبةِ ونهاهُم عن القٌنوطِ مِن رحمتِه, فقال: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). مَهْمَا بَلَغَتْ دَرَجَةُ الإسراف, ومَهْمَا بَلَغَ عِظَمُ الذَّنْب. أَلَمْ تَسْمَعُوا قولَ أرْحَمِ الراحمين, وخَيْرِ الغافرين, في سُورةِ البُرُوج: ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ) دلَّ ذلكَ على أَنَّهم لو تابُوا, تابَ اللهُ عليهم, لأنه سبحانه قال: ( ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ), مَعَ العِلْمِ أَنَّهُم حَرَّقُوا المؤمنينَ والمؤمنات, وصَدُّوهُم عن سبيلِ الله. قال الحسنُ رحمهُ الله: " انْظُرُوا إلى هذا الكرمِ والجُود: هُمْ قَتَلُوا أولياءَه وأهْلَ طاعتِه، وهو يَدْعُوهُم إلى التوبة !!! ".
ويا عبادَ الله: لا تَنْسَوْا أن اللهَ تعالى دَعَا إلى مغفرتِه مَنْ زَعَمَ أَنَّ المَسِيحَ هو الله، وَمَنْ زَعَمَ أَنَ المَسيحَ هو ابنُ الله، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُزَيْرًا ابنُ الله، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ فقير، وَمن زَعَمَ أنَّ يَدَ اللهَ مَغْلُولُة، وَمَنْ زَعَمَ أنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثة، فقال سبحانه لِهؤلاء: ( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
ويا عبادَ الله: تَذَكَّرُوا فَرَحَ اللهِ بِتَوبَةِ عبدِه حينَ َيَتُوبُ إليه, فقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ), وفي رواية: ( فَأَخَذَ بِخِطامِها، ثم قال مِن شِدَّةِ الفَرَح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك ). وما أجمل تلك الحكاية التي ذكرها ابن القيم رحمه الله: أَنَّ بَعْضَ العُبَّادِ رأى في بعضِ السِّكَكِ باباً قد فُتِحَ وخَرَجَ منه صَبِيٌّ يَسْتَغيثُ ويَبْكِي, وأُمُّه خَلْفَهُ تَطْرُدُه, حتى خَرَجَ, فَأَغْلَقَت البابَ في وَجْهِه, فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيد, ثم وقَفَ مُتَفَكِّراً , فَلَمْ يَجِدْ لهُ مَأْوَى غَيْرَ البيتِ الذي أُخْرِجَ مِنْه, ولا مَنْ يُؤْويهِ غيرَ والدتِه, فَرَجَعَ مَكْسُورَ القلبِ حَزِيناً. فَوَجَدَ البابَ مُغْلَقاً, فَتَوَسَّدَه وَوَضَعَ خَدَّه على عَتَبَةِ البابِ ونام, وخَرَجَتْ أُمُّه, فَلَمّا رَأَتْهُ على تِلكَ الحال, لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَها عليه, والتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُه وتَبْكِي وتقول: يا ولدِي, أينَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمْنْ يُؤْوِيكَ سِوَاي؟ ثم أَخَذَتْهُ ودَخَلَت.
فتذكروا يا عبادَ اللهِ هذا الموقف, وتَذَكَّروا قولَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( لَلّهُ أرْحَمُ مِن هذه بِوَلَدِها ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: مَهْما هَرَبَ العبدُ, ومَهْما ابتَعَدَ عن اللهِ, فليسَ له سوى الله, فَفِرُّوا إليه, وتُوبوا إليه مِن جميعِ ذنوبِكم. واعلمُوا أن هذه الرحمةَ الواسعةَ, إنما هي لِمَن بَذَلَ أسبابَها, فاتَّقاه وتابَ إليه, وسَعَى في مرضاتِه, قال تعالى: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ... ). وأما الكفارُ فليس لَهُم من هذه الرحمةِ الواسِعَةِ نصيب, كما قال تعالى: ( أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). فتوبُوا إلى اللهِ واستغفِرُوه, واعلموا أن التوبَةَ لا تكونُ توبةً صحيحةً, إلا بالإخلاصِ والندمِ, وعَدَمِ الإصرارِ على الذنب.
وإذا كانَ لِأخيكَ عليكَ مَظْلَمةٌ فبادِرْ بالتَحَلُّلِ مِنْهُ إنْ كُنْتَ قادراً على ذلكَ وَمُتَمَكِّناً.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام, ووفقنا فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير والآثام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها ومن يتربص بها الدوائر يا قوي يا عزيز، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|