بِعثةُ مُعاذ بن جبل إلى اليمن
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الله تعالى بَعَثَ محمداً صلى الله عليه وسلم بالحقِّ بشيراً ونذيراً, لِيَدْعُوَ الناسَ إلى إفرادِ اللهِ تعالى بالعِبادَةِ وتَرْكِ الشرك. وافْتَرَضَ اللهُ تعالى على الناسِ أَجْمَعِين طاعَةَ رسولِهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم, بَلْ سَدَّ إلى الجَنَّةِ جَمِيعَ الطُّرُقِ المُوصِلَةِ إليها, ما لَمْ تَكنْ مِنْ طَريقِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم, قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون ). ثَبَتَ في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ( إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ). يا له مِنْ حَديثٍ عَظيم, تَضَمَّنَ وصايا عَظيمَةٍ وفوائِدَ مُهِمَّةٍ مِنْ سَيِّدِ الخلقِ وأفضَلِ الرُسُلِ وخاتَمِهِم, لِصحابِيٍّ جَلِيل, وعالِمٍ مِنْ عُلَماءِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم.
وهذِهِ الوصايا يَحْتاجُها الناسُ جميعاً على وجْهِ العُموم, ويحتاجُها العلماءُ والدعاةُ على وجْهِ الخُصُوص. وأَهَمُّ هذِهِ الفوائِدِ:
أولا: أنَّ مِنْ أعْظَمِ مَهامِّ ولِيِّ الأمْرِ, بَعْثَ الدعاةِ والعلماءِ, إلى الهِجَرِ والمُدُنِ والدُّوَلِ, مِنْ أجْلِ الدعوةِ إلى الله, وبيانِ ما يَجِبُ على الناسِ مِنْ حَقِّ اللهِ تعالى.
الفائدةُ الثانيةُ في هذا الحديث: وُجُوبُ العلمِ والبصيرةِ في الدعوةِ إلى الله. لأنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَمَرَ معاذاً أنْ يكونَ على بصيرةٍ بما يَدعُو إليه, وعلى بَصيرةٍ بِحالِ المَدْعُوِّين, وعلى بَصيرةٍ بِكَيْفِيَّةِ الدعوة. حْيْثُ أَمَرَهُ أنْ يَسْتَعِدَّ لِما سَيُواجِهُ مِن الشُّبَهِ التي قَدْ يَسْمَعُها مِنْ أهْلِ الكِتابِ, لأنَّ أَهْلَ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنصارى: فيهِمُ الأحْبارُ والعُبَّاد. وبِحُكْمِ ما يَمْلِكونَه مِنْ معلُوماتٍ ومَعْرِفَةٍ سابِقَة, مِن خِلالِ ما عِنْدَهُم مِنَ الكُتُب.
وأَمَرَهُ أيضاً أن يكونَ على بَصِيرَةٍ بِحالِ المَدْعُوِّين: فإنَّ الناسَ يَخْتَلِفُونَ في طَبائِعِهِم, وأحوالِهِم, وثقافاتِهِم, واعْتِقاداتِهِم. فقالَ له: ( إنكَ تأتي قوماً أهْلَ كِتاب ).
وأمَرَهُ أيضاً أنْ يَكونَ على بَصِيرَةٍ بِكَيفيةِ الدعوة, لأنه أَمَرَهُ بالتَّدَرُّجِ في الدَّعوةِ والبُداءَةِ بالأَهَمِّ فالأَهَم. فَيَبْدأُ بالعَقيدَةِ لأنها هي الأساسُ, وأما غَيْرُها فإنَّه تَبَعٌ لها, لا يَصِحُّ إلا بها.
وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِد: أَنَّ أساسَ دِينِ الإسلامِ, الشهادةُ لله بالوَحدَانِيَّة, ولِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم بالرِّسالة, فَلا بُدَّ في الدُّخولِ في الإسلامِ مِنَ الإتيانِ بالشهادتينِ معاً, فَلا تَكْفِي واحدةٌ مِنْهُما بِدونِ الأخرى. وعلى هذا فإنَّ الناسَ لا يُؤْمَرُونَ بِشَيءٍ مِنْ شعائِرِ الإسلام, حتى يُقِرُّوا بالشهادَتَينَ جميعاً, ويُؤْمِنُوا بِما تَضَمَّنَتْه مِنَ المعاني, ويَنْقادُوا لها, لِأنه لا يُقْبَلُ مِنْهُم عَمَلٌ قَبْلَ ذلك.
وفي هذا الحَديثِ مِنَ الفوائِد: أّنَّ اليهودَ والنصارى بعْدَ بِعْثَةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم, لَيْسُوا مُسلِمِين, حتى لو قالوا: لا إلهَ إلا الله. ما لَمْ يَشْهَدوا أنَّ محمداً صلى الله عليهِم رسولُ الله, ويؤمِنُوا بِهِ ويَتَّبِعُوه. وهذا أَمْرٌ مُسَلَّمٌ لا يُخالِفُ فيه مُسْلِمٌ يؤْمِنُ باللهِ ورسولِه. فَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَ ذلكَ, فَقَدْ وَقَعَ في مُعْتَقَدٍ خَطِيرٍ, عَدَّهُ العُلَماءُ مِنْ نَواقِضِ الإسلام, لِأَنَّه رَدٌّ لِلأدِلَّةِ المُحْكَمَةِ القَطْعِيَّةِ. والتي منها هذا الحديث, ومِنْها أيضاً قولُهُ تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: وفي الحديث الذي سَمِعْتُم من الفوائِد: تَحْريمُ الظُّلْمِ بِجَمِيعِ أنواعِه, فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامَة, وعاقِبَتُهُ على الظالِمِ وَخيمَةٌ في الدُّنيا والآخِرَة. ودَعْوَةُ المَظْلُومِ مُسْتَجابةٌ لا مَحالَة, فإنه ليسَ بينَها وبينَ اللهِ حجاب, أي: حاجِزٌ يَمْنَعُ وُصُولَها واسْتِجابَتَها, حتى لَوْ كانَ المُظْلُومُ فاجِراً, فإن دَعْوَتَه علَى مَنْ ظَلَمَه مُسْتَجابَة, لِما يُرْوى عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه قال: ( دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا, فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ ).
اللهم أرنا الحقَّ حَقاً وارْزقنا اتباعه, وأرنا الباطِلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه, وأعِذْنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |