بَلْ تُؤْثِرُونَ
الحَياةَ الدنيا
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، عباد
الله: اتقوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أَنَّ الدنيا دارُ مَمَرٍّ، ولَيْسَت دارَ
مَقَرٍّ، وأنَّ اللهَ تعالى مُسْتَخْلِفُكُم فيها لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُون،
فإيَّاكُم والرُّكُونَ إلَيْها، والانْشِغالَ بها، فإنَّ ذلك مِنْ أعظمِ ما
يَصْرِفُ العبدَ عَن الأَمْرِ الذي خُلِقَ مِن أجْلِه. والعَبْدُ لابُدَّ وأنْ يأخُذَ مِنَ الدنيا
مِمَّا أباحَ اللهُ لَهُ ما يَجْعَلُهُ يَعِيشُ عَزيزاً آمِناً مُطْمِئِنًّا هُوَ
وَمَنْ يَعُول. ولكِن لا يَجُوزُ لهُ أنْ يَنْشَغِلَ بِدُنياه عن آخِرَتِه، فإنَّ
مَنْ آثَرَ الدنيا، لابُدَّ وأنْ يكونَ ذلك على حِسابِ الآخرة. وَمَن آثرَ الآخرةَ،
لابُد وأنْ يَكُونَ ذلك على حِسابِ الدنيا. قال تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ). أي: تُقَدِّمُونَها
عَلَى الآخِرَةِ، وتَخْتارُونَ نَعِيمَها المُنَغَّصَ الْمُكَدَّرَ الزائِلَ،
عَلَى الآخِرَةِ، التي فيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَ
على قلبِ بَشَر. فانْظُرْ يا عبدَ اللهِ ما الذي تُعْطِيهِ لِلآخِرَةِ
مِنْ وَقْتِكَ واهْتِمامِك، وقارِنْ بينَ ذلكَ، وبينَ ما تُعْطيه لِلدنيا، وحاسِبْ
نَفْسَكَ في ذلك: انظُرْ إلى
عَمَلِكَ مُنْذُ أنْ تَسْتَيْقِظَ في الصباحِ، إلى أنْ تأوِيَ إلى فِراشِكَ
بالليلِ: وقارِنْ بينَ ما قَدَّمْتَه لِدُنياكَ وما تَهْواهُ نَفْسُك.
وبينَ ما قَدَّمتَه لِلّهِ الذي خَلَقَكَ لِعِبادَتِه وطاعَتِه واتِّباعِ رسولِه
صلى الله عليه وسلم. وانْظُرْ كْم نِسْبَةَ ما بينَهُما. انْظُرْ إلى
حالِكَ عِنْدَما تَأْوِي إلى فِراشِكَ بالليل: ما هيَ نِيَّتُكْ، وما
هُوَ هَمُّك؟ هل تَبِيتُ وقَلْبُكَ مُتَعَلِّقٌ بِصلاةِ الفجر؟ وَهَلْ بَذَلْتَ
أسبابَ الاستِيقاظِ لِهذِه الصلاة؟ انْظُرْ إلى
حالِكَ عِنْدَما تَسْمَعُ النداءَ لِصلاةِ الفجرِ: هَلْ تُبادِرُ
فَتَقومَ مِنْ فِراشِكَ حُبًّا لله، وخَوفاً مِن عِقابِه، وَطَمَعاً في جَنَّتِه
وثَوَابِه، فَتَتَوَضَّأَ وتَذهبَ إلى المسجد؟ أَمْ أَنَّكَ تَخْلُدُ إلى الراحةِ
والفِراشِ، وتُضَيِّعُ أمْرَ الله؟ انْظُرْ إلى نصيحَتِكَ
لِوَلَدِك وتَرْبِيَتِه: هَلْ نَصيحَتُكَ له وتَرْبِيَتُهُ
مُتَعَلِّقَةٌ بِدِينِه وصَلاتِه، والبِرِّ والصِلَةِ ومَحاسِنِ الأخلاقِ
ومُجالَسَةِ الأخيارِ؟ وهَلْ تُوَفِّرُ لهُ الأجْواءَ الْمناسبةَ لِصِلاحِه؟ أمْ
أنها خاصةٌ بِدُنياهُ فقط؟ وأَخْطَرُ مِنْ ذلكَ أنْ تَكونَ فيما يَصرِفُهُ عن
عقيدَتِه وعِبادتِه، أو في الَّلهْوِ وما لا يُفِيد؟ انْظُرْ إلى
حالِكَ مع القرآنِ والتَفَقُّهِ في دينِك: كَمْ تُعْطِي القرآنَ
والسُّنَّةَ مِنْ وقتِكَ الطويلَ الذي يَمْضي غالباً فيما لا يُفيد؟ انْظُرْ إلى
غَيْرَتِكَ وغَضَبِك: هل تغارُ لِدِينِ الله، وهل تغْضَبُ لله، أم أنَّ
غَضَبَكَ وغَيْرَتَكَ لِلدُّنيا ولِأمورِكَ الخاصَّةِ؟ فَإِنَّ مِنْ علاماتِ
تَعَلُّقِ القلبِ بالله، انضِباطَ أَمْرِ الغَيْرَةِ، بحَيْثُ لا يغارُ إلا على
أمْرِ الدِّين. ولِذلك لم يَنْتَصِرْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ قَطُّ،
فإذا انتُهِكَت مَحارِمُ الله، غَضِبَ للهِ، صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عَلَيْه.
بِخِلافِ ما عَلَيْه أهلُ الدنيا الذين يَجْعَلُون سَخَطَهُم ورِضاهُم مِنْ أَجْلِ
الدنيا، إن أُعْطُوا رَضُوا، وإن لم يُعْطَوا إذا هم يَسْخَطُون. إِنْ تضَرّرَتْ
دنياهم، أقامُوا الدنيا وأَقْعَدُوها. وإنْ رأوا ما يَضُرُّ عقيدتَهم وسُنَّةَ
نبيهِم صلى الله عليه وسلم. أو يَضُرُّ عِبادَتَهم وأخلاقَهم، لم يَتَأَثَّرُوا
ولَمْ يُحَرِّكُوا ساكِناً. ( تَعِسَ عَبْدُ الدينارِ، وعبدُ الدِّرهمِ، وعبدُ
الخَمِيصةِ، إن أُعْطِي رَضِيَ، وإن لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ). انْظُرْ أيُّها
الْمُسْلِمُ عِنْدَما تُنفِقُ مالَك: هلْ تَحْرِصُ على أنْ تُقَدِّمَ
لِنَفسِكَ؟ فإنّ مالَكَ الحَقِيقِيَّ هو ما قَدَّمْتَه لِنَفسِك بَعْدَ مَوْتِك.
عَن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنها أنَّهُم ذَبَحُوا شاةً فقال النبيُّ صلى الله
عليه وسلم: ( ما بَقِيَ مِنها؟ ) قالت: ما بَقِي مِنْها إلا كَتِفُها. قال: (
بَقِيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفَها ). والْمَعْنَى: أَنَّها بَقِيَتْ لَنا في الآخِرة
إلا كَتِفَها. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة
الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ عباد الله: إنَّ مِنَ الأمُورِ
السَّلْبِيَّةِ التي يَقَعُ فيها كثيرٌ مِنَ الناسِ: عِنْدَما يَتَناقلُونَ
حِكْمَةً أوْ مَثَلاً مِنَ الأمثالِ، فَيَنْسِبُونَه إلى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ
وسلم، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّه حديثٌ، ثُمَّ يَفْهَمُونَه فَهْماً خاطِئاً. وَمنْ ذلكَ قَوْلُهُم: " اعْمَلْ لِدُنياكَ كأنَّك
تَعيشُ أبداً، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ كأَنَّكَ تَموتُ غداً ". فهذا
الكلامُ لا يُصِحُّ عَنِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم. ثُمَّ إنَّ مَعناهُ ليسَ
كَمَا يَظُنُّهُ كثيرٌ مِنَ الناس. وإنَّما مَعناهُ يَتَضَمَّنُ التَّزهِيدَ في
أَمْرِ الدُّنيا، وعدَمَ الحِرْصِ عليها: فَقَولُهُ: " اعْمَلْ لِدُنياكَ
كَأَنَّكَ تَعيشُ أبدا ": أي: أنَّ أمُورَ الدُّنيا على التَّراخِي، فلا
يَنْبَغي أَنْ تُشْغِلَكَ، ولا يَنْبَغِي أن تَسْتَعْجِلَ عليها، أو تُسابِقَ مِنْ
أجلِها، فَمَا لَمْ تُحَصِّلْهُ اليومَ، تُحَصِّلْهُ غداً، فلا تَكْتَرِثْ
عِنْدَما يَفوتُكَ شَيءٌ مِن فُرَصِها، لِأنَّ خَسارَتَها لَيْسَتْ خَسارة.
بِخِلافِ أَمْرِ الآخِرَةِ، فإِنَهُ لا يَنْبَغِي تأخيرُه، لِأنَّ خسارَتَهُ مِنْ
أعظَمِ الخَسارةِ، فلا ينْبَغِي تأخيرُ عَمَلِ اليومِ إلى الغَد. اللهم
لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير
من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم أصلح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، اللهم آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب
إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أصلح
أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك
محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم
منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم اجعلهم
أنصاراً لدينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|