الصراط
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واستعدُّوا قَبْلَ المَوتِ لِما بعدَ الموت, وتَذَكَّرُوا يومَ القيامة, يَوْمَ يقومُ الناسُ لِرَبِّ العالمين. وإِيَّاكُم والغَفْلَةَ عَمَّا أَمَامَكُمْ مِنْ مَشاهِدِ يَوْمِ القيامة, والتي مِنْها مُرُورُ الناسِ على الصِّراطِ المَمْدُودِ على متْنِ جَهَنَّم، حَيثُ يُضْرَبُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْها جِسْرٌ وَهو الصِّراط. وهذا الصِّراطُ له صِفاتٌ تَشِيبُ لها رؤوسُ الوِلْدان، إذا رأَتْهُ المَلائِكةُ قالوا لِرَبِّهِم: " سُبْحانَكَ ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِك ". مَعَ العِلْمِ أَنَّهُم عِبادٌ مُكْرَمُون, لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُون, ومَعَ ذلكَ يقولُونَ هذا الكلام!! فَكَيفَ إذا رأيناهُ وَنَحْنُ العِبادُ المُذْنِبُونَ المُقَصِّرُون؟!!!.
إنَّهُ صراطٌ يُضْرَبُ فَوْقَ جهنم، في ظُلْمَتِها.
مَدْحَضَةٌ مَزِلَّة, تَزْلُقُ فيهِ الأَقدامُ, وتَسْقُطُ فيهِ الأجساد. أَدَقُّ مِنَ الشَعْرِ, وأَحَدُّ مِنَ السيف. لَهُ شَوْكٌ وَخطاطيفٌ وَكَلالِييبٌ مِن حَدِيدٍ تَخْطُفُ مَنْ أُمِرَتْ بِخَطْفِه.
والناسُ على الصِّراطِ بَيْنَ ناجٍ وهالِك.
لَيْسَ مَعَهُمْ في تِلْكَ الظُّلْمَةِ بَعْدَ رَحْمَةِ الله, إلا نورُ الإيمان. والسُّرْعَةُ في المُرُورِ عَلَى قَدْرِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالِح.
وهذا مِنْ كَمالِ عَدْلِ اللهِ: حَيْثُ تَذْهَبُ الأموالُ, ويَذْهَبُ الجاهُ, ويَذْهَبُ الحَسَبُ والنَّسَبُ, والمناصِبُ والشهاداتُ. فلا يَبْقى بَعْدَ رَحْمَةِ اللهِ, إلا الإيمانُ والعَمَلُ الصالِح. فاسْتَعِدُّوا يا عِبادَ اللهِ لِهذا الأَمْرِ الجَلَل, فإنَّهُ واقِعٌ لا مَحالَة. قال تعالى: ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ). وَسُئِلَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أَيْنَ الناسُ يومَ تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرضِ والسماوات؟ فقال: هُمْ في الظُّلْمَةِ دونَ الجِّسْر ). أي: جِسْرَ جهنم.
فأمَّا الكُفّارُ والمُشركونَ, فإنَهُمْ لا يَمُرُّون على الصِّراطِ, بَلْ يَسْقُطُونَ في النارِ مباشرةً والعياذُ بالله. وإنَّما الذي يَمُرُّ هُمُ المؤمنونَ والمُنافقون. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( فأكونُ أوَّلَ مَنْ يَجوزُ مِن الرُّسُلِ بِأُمَّتِه, ولا َيَتَكَلَّمُ يَوْمَئذٍ أحَدٌ إلا الرسل, وكلامُ الرُّسُلِ يومَئِذٍ: اللهُمَّ سَلِّم سَلِّم ). وقال أيضاً: ( وَيُعْطَى كُلُّ إنسانٍ مِنْهُم مُنافقٌ أوْ مُؤْمِنٌ نوراً, ثُمَّ يَتَّبِعونَه ), فَيُطْفِئُ اللهُ أَنوارَ المنافقين، فَيَسْقُطُونَ فِي جهنم. فيبقَى المؤمنون, البَرُّ والفاجِر. المُطيعُ والعاصي، فَيُعْطَى كُلُّ واحِدٍ نوراً على قَدْرِ إيمانِه وعَمَلِهِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فَمِنْهُم مَنْ يُعْطَى نُورُه مِثْلَ الجَبَلِ بَيْنَ يَدَيه, ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ دُونَ ذلك, وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَه مِثْلَ النَخْلةِ بيمينِه, ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دونَ ذلك, حتى يَكُونَ آخِرُ ذلكَ يُعْطَى نُورَه على إبْهامِ قَدَمِه, يُضِيءُ مَرَّةً ويَطْفأُ مَرَّة, فإذا أَضاءَ قَدَّمَ قَدَمَه, وإذا طفِئَ قام ).
وَكَما أنَّ نُورَهُم على قَدْرِ إيمانِهِم وَتَقْواهُم. كَذلِكَ سُرْعَتُهُم في المُرُورِ على الصراط, تَكونُ بِقَدْرِ إيمانِهِم وتَقواهُم. فَمِنْهُم مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصَر, وَمِنْهُم مَنْ يَمُرُّ كالبَرْق, ومِنْهُم مَنْ يَمُرُّ كالرِّيح, وكأجَاوِدِ الخَيل, وكَرِكابِ الإبل, ومِنْهُم مَنْ يَمشي مَشْيَا, ومِنْهُمْ مَن يَزْحُفُ زَحْفاً لِضَعْفِ إيمانِه وعَمَلِه, ومِنْهُمْ مَنْ يُخْدَشُ ولكنَّه يَنْجو, ومِنْهُم مَنْ يُكَرْدَسُ في النارِ, نَعُوذُ بالله.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
أيها المُسلِمْ: يا مَنْ تُرِيدُ الثُّباتَ على الصِّراطِ يومَ القيامة, عليكَ بالتوحيدِ الذي هو حَقُّ اللهِ على العبيد, وعَلَيكَ بالصِّراطِ المُستقيمِ في الدّنيا, وهو طاعةُ اللهِ وطاعَةُ رسولِهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَيَا مَنْ تُريدُ الثباتَ على الصِّراطِ في الآخرة: أَكْثِرْ مِنَ التَرَدُّدِ على المَسْجِدِ والجُلُوسِ فيه, قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( المسجدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِي, وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كان المسجدُ بَيتَه, بالرَّوْحِ والرحمةِ, والجَوازِ على الصراطِ إلى رضوانِ اللهِ إلى الجنة ).
وَيا مَنْ تُريدُ الثباتَ على الصراط: احْذرِ الخِيانَةَ وقَطيعَةَ الرَّحِم, فإنَّ شأنَهُما عَظيمٌ عِنْدَ المُرورِ على الصراط, فقد قال صلى اللهُ عليه وسلم: ( وَتُرْسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ, فَتَقُومانِ جَنْبَتَي الصِّراطِ يميناً وشمالاً ), وما ذاكَ إلا لِعِظَمِ حَقِّهِما عند الله، حيثُ يُحاجَّانِ عنِ المُحِقِّ الذي راعاهُما، وَيشْهَدانِ على المُبْطِلِ الذي أَضَاعَهُمَا.
ويا مَنْ تُرِيدُ الثباتَ على الصِّراط: تَذكَّرْ أنَ قَضاءَ حوائجِ إخوانِكَ المؤمنينَ, والسَّعْيَ فيها, شأْنُهُ عَظيم. يُرْوَى عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: ( وَمَنْ مَشَى مَعَ أخيهِ في حاجةٍ حتى يُثْبِتَها لَه, أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَه يَوْمَ تَزُولُ الأقدام ).
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .