وجاءكم الشتاء
الحمد لله الذي خلق كلَّ شيء فقدره تقديراً؛ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أنْ يذّكر أو أراد شكوراً؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه إلى العالمين بشيراً ونذيراً؛ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:-
فاتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه، واعلموا أن الله تبارك وتعالى جعل في دار الدنيا ما يذكر بالآخرة فجعل سرور العبد وفرحه بنعمة ربه مذكراً له جنته وفضله ، بينما تذكر أحزانُ الدنيا ضيقَ المقام يوم القيامة وتذكر نار الدنيا نار الآخرة دار الخزي والندامة ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ﴾.
ومما يذكر بالله وبجزائه :تعاقب الفصول والأيام فموسم فيه الحر الشديد وآخر فيه البرد القارس، فشدة الحر والبرد تذكر بما في جنهم من الحر والزمهرير، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ من سموم جهنم ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ البَرد من زَمْهَرِيرِ جَهنم ) فشدة البرد الذي نقاسيه هذه الأيام إنما هو نفس من نفس جهنم أعاذني الله وإياكم من شرها.
إن دخول الشتاء وشدة البرد فيه توجب على العبد العاقل الفطن محاسبة نفسه ومراجعتها ولذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يفرحون بدخول الشتاء إذ يعدونه مُعيناً لهم على طاعة ربهم إذ أن فيه من المزايا ما ليس في غيره :
فمن مزايا الشتاء: طول ليله بحيث ينامون فيه بغيتهم ثم يقومون لمناجاة ربهم وتهجدهم .
ومن مزاياه: قصر نهاره وبرودته مما يعين على صيامه. قال الإمام ابن رجب رحمه الله: المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام . ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام.
ومما يعظم أجره ويجزل جزاؤه في هذا الموسم : إسباغ الوضوء, ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)، قالوا بلى يا رسول الله. فقال: (إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط) .
ومما ينبغي أن ننتبه له: أن للصدقة في هذا الموسم أهميةً بالغةً ، ففيه تعظُم الحاجة وتكثر الفاقة ويشتد البؤس، وإن بين أظهرنا ومن جيراننا أقوام من المسلمين لا يكادون يتلذذون بنوم ولا يهنأون برقاد وذلك مما يصيبهم من البرد الشديد حيث لا يجدون ما يلبسون ولا ما به يكتسون فيبيتون ليالي شديدة يقاسون فيها البرد والعراء وما أجمل أن يتكاتف أهل المسجد الواحد على تتبع الفقراء المجاورين فيغنوهم ويسدوا حاجتهم فالمسلمين كالجسد الواحد.
ومن أولئك الفقراء أيضا بعضاً من العمال الذين يعملون لدينا ويعيشون قريباً منا من أصحاب الرواتب الزهيدة ,فلا يدري أحدهم هل ينفق راتبه على نفسه أم يبعث به إلى أسرته التي تقطع جوعاً وعطشاً وعرياً.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم يوصيهم: إن الشتاء قد حضر، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب ، فإن البرد عدوٌ ، سريعٌ دخوله بعيد خروجه.
اللهم اجعلنا ممن رحم عبادك ففتحت لهم أبواب رحمتك وجناتك . اللهم اجعلنا من يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا رب العالمين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ عظيم الشأن، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ لَه الكريم المنان، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ إلى الثقلين الإنس والجآن ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ أما بعد:-
ومن ميزات الشتاء: ما تفضل به ربنا جل وعلا فرخص لنا المسح على الخفين وذلك وفق شروطٍ :
منها أن يلبس الإنسان الخفين أو الجوربين على طهارة كاملة بأن يتوضأ وضوءا كاملاً , وأن يكون الخف أو الجورب طاهراً في نفسه , وأن يكون في المدة المحددة شرعاً: يوما وليلة للمقيم - أي أربعة وعشرين ساعة - لا كما يظنه بعض الناس أن مدة المسح خمس صلوات فهذا غير صحيح , وثلاثة أيام ولياليها للمسافر.
والمدة تبدأ من أول مسح بعد الحدث فمثلا إذا توضأ ثم لبس الشراب لصلاة الفجر وبعد الصلاة انتقض وضوءه فلما دخل وقت الظهر توضأ للظهر فتحسب المدة من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر من الغد .
ومن المسائل أن بعض المتوضئين بعد غسل الرجل اليمنى مباشرة يلبس الجورب ثم يغسل رجله اليسرى ويلبس الجورب وهذا في الحقيقة لم يلبسهما على طهارة كاملة. ومن الشروط أن يكون المسح في الحدث الأصغر وأما عند الحدث الأكبر فيجب أن يخلعهما .
ومن مسائل المسح أنه إذا كانت الجوارب مخرقة أو فيها شقوق - ولم تكن الشقوق كثيرة جدا بحيث تخرج الجورب عن مسمى الجوارب - فإنه يجوز المسح عليها .
ومن المسائل أن نزع الجورب لا يبطل الوضوء فلو أن رجلاً مسح على الخف – وهي الكنادر – أو على الجورب – وهو الشُرّاب – فلما أراد أن يصلي خلع الخف أو الجورب فإن وضوؤه باقي ولم ينتقض على الصحيح. ومنها أنه لو صلى صلاة وقد مسح على الشراب ولم يعلم بأن المدة انتهت فالواجب أن يتوضأ وأن يعيد صلاته ولا إثم عليه لكونه ناسياً.
ومن الأحكام الفقهية التي يَحتاجُ الناسُ إلى معرفتها في فصل الشتاء :
الجمع بين الصلاتين في الحرج ، فهي رخصة من الله والضابط في ذلك: هو الحرج ، للحديث: (أراد أن لا يُحرج أمته)، فإذا حصل الحرج بسبب المطر شرع الجمع بين الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، وكذلك إذا وجد الناسُ الحرجَ بسبب البرد الشديد مع هواء غير معتاد فإنه يشرع الجمع، وكذلك تشرع الصلاة في الرحال, وذلك بأن يقول المؤذن بدلاً من الحيعلتين أو بعدهما: (الصلاة في الرحال) أي في البيوت .
ومما يحسُنُ التنبيه عليه: أن بعض الناس قد يستدفئ بالنار والجمر ولا يحتاط منهما فيغلق على نفسه الأبواب والنوافذ، أو يدع النار مشتعلة وينام - فتحرقه أو تؤذيه ، وقد حذّرنا نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه من مثل هذا التصرف لخطر عواقبِه ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ) رواه ابن ماجه .
اللهم وفقنا لطاعتك ودلنا على سبيل مرضاتك واهدنا صراطك المستقيم.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا.
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وجماعتنا يا أرحم الراحمين .
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |