للزواج لا للفتنة والفساد
الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد ، الخبير بشئون العباد ، يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، و : } مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي { ، } وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشكره على نعمه وآلائه وفضله وإحسانه ، وعد : } الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ { ، } إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، تعالى عن الشركاء والأضداد والأنداد . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم التناد .
أما بعد ، فيا عباد الله :
اتقوا الله U ، فتقوى الله سبحانه ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
فَيَا أَيُّها الإِنْسَانُ بادِرْ إلى التُّقَى
وَسَارِعْ إلى الخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ
وَأَكْثِرْ مِنَ التَّقْوَى لِتَحْمَدَ غِبَّها
بِدَارِ الْجَزَا دَارٌ بِها سَوْفَ تَنْزِلُ
وَقَدِّمْ لِمَا تُقْدِمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّما
غَداً سَوْفَ تُجْزَى بِالَّذِي أَنْتَ تَفْعَلُ
وَسَارِعْ إلَى الْخَيْرَاتِ لَا تُهْمِلَنَّها
فَإِنَّكَ إِنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ
فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وَأَهْدَى سَبِيلَهَا
بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانُ مَا كَانَ يَعْمَلُ
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الزواج سنة من سنن الحياة ، بل هو من أهم السنن الحياتية على الإطلاق ، فلا تحلو الحياة ، ولا تكمل سعادتها ، ولا تذاق لذتها ، إلا بالزواج ، ولهذا يقول U : } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { وفي الحديث الصحيح ، يقول النبي r : (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ )) ، وفي الحديث الحسن ، يقول r : (( إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ كَمُلَ نِصْفُ الدِّينِ ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي )) .
فالزواج ـ أيها الأخوة ـ سنة من سنن الحياة ، لو لأحد الاستغناء عنه لاستغنى عنه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، يقول U مخاطبا لنبيه r : } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً { بل ـ أيها الأخوة ـ حذر النبي r الذي قال لا يتزوج النساء ، وأنكر عليه ، كما في الحديث الصحيح ، قصة الثلاثة ، وفيه قوله r : (( إنِّي لأخْشاكم لله ، وأتقاكم له ، ولكني أصُومُ وأفْطِرُ ، وأصَلِّي وأرْقُدُ ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ ، فَمَن رغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليس منِّي )) فالزواج أمر لا بد منه ، ولا لأحد غنى عنه ، ولا يرغب عنه إلا عاجز أو فاجر ، كما قال عمر بن الخطاب t : ما يمنع من النكاح ، إلا عجز أو فجور . الإنسان الطبيعي السوي ، يجعل الزواج في أولويات اهتماماته ، يفعل ما باستطاعته لتحقيق هذا الأمر ، الذي يضمن له ـ بإذن الله ـ سعادته وسكن نفسه ، واطمئنان روحه ، بل ونصف دينه كما جاء في حديث النبي r السابق ، (( إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ كَمُلَ نِصْفُ الدِّينِ ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ولأهمية الزواج في حياة المسلم ، بين النبي r خطورة تعطيله ، وجريمة من تسبب في تأجيله ، والنتائج السيئة ، والمخاطر العظيمة المترتبة على تأخيره عن وقته ، فقال r في الحديث الحسن : (( إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )) فترك الزواج وتعطيله ، ووضع العراقيل في طريق من هو بحاجته ، من الأسباب الأكيدة للفتنة في الأرض والفساد العريض ، ومن الدوافع الخطيرة ، المؤدية إلى ارتكاب ما حرم الله U ، وفعل ما لا يرضيه سبحانه . والواقع ـ أيها الأخوة ـ أكبر برهان ، فما هذه الأجهزة المنتشرة ، التي يتواصل من خلالها كثير من الناس ، ويتم من خلالها تبادل المقاطع المحرمة ، والمشاهد الخطيرة ، والملفات المفتوحة ، في السجون ودور الرعاية ، والمصحات النفسية ، والعقوق والقطيعة ، والكره والبغضاء ، بل والاختطاف والخروج دون علم الأهل ، والتواعد في الأسواق ، ومشوار أبي عشرة للاستراحات ، ما ذلك إلا من باب الفتنة والفساد العريض ، الذين حذر منهما النبي r ، بسبب عرقة الزواج وتعقيده .
فالعقلاء الأسوياء ، يدركون أهمية الزواج ، وحاجة الناس إليه ، فيعملون على تسهيله ، ويحرصون على تحقيقه ، ليسوا كالسفهاء ، الذين لعبت بعقولهم عادات الجاهلية ، وعبثت في ضمائرهم التقاليد القبلية ، وصاروا أسارى لنزغات شياطين الجن والأنس ، فخانوا أماناتهم ، وغشوا رعياتهم ، فحرموا أبناءهم وبناتهم ، حقا من حقوقهم ، لأسباب واهية ، وحجج باطلة ، هؤلاء سفهاء مجرمون ، يخشى عليهم من عذاب الله U ، بل قد يكونون ضحية من ضحايا الفتنة والفساد العريض .
نعم ـ أيها الأخوة ـ الذي يرفض خطاب ابنته أو بناته ، وهم أهل دين وخلق وأمانة ، إنما يرفضهم من أجل فقرهم ، أو قلة مراتبهم ، أو عدم وظائفهم ، أو لاعتبارات جاهلية ، فقد يقع في الفتنة ، أو يكون سببا في تعريض ابنته لها وللفساد العريض الكبير ، الذي يتمنى لو دفع مئات الآلاف ، وضحى بكثير من الإعتبارات ، مقابل السلامة منه ، نسأل الله السلامة والعافية .
والله ـ أيها الأخوة ـ لو ما يترتب على تعطيل الزواج ، إلا مخالفة أمر النبي r ، إنه لكاف للعاقل ، أن لا تقر عينه ، ولا ترتاح نفسه ، إلا بتزويج بناته ، لأن التحذير من الذي قال الله U عنه : } وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى { كلامه r وخبره ، ووعده ، وما يترتب على مخالفة أمره ، هو وحي من الله ، وحي من الخبير بخلقه ، اللطيف بعباده ، العليم بأحوال الناس ، وما تؤول إليه أمورهم ، وما تصير إليه شئونهم ، فالفتنة والفساد بتعطيل الزواج ، إذا عطل الزواج وعرقل وأخر عن وقته المناسب له ، وقع الفساد العريض بأشكاله وأنواعه .
أيها الأخوة :
إحدى الفتيات ، وقعت في الفاحشة ، في الفساد الكبير الذي حذر منه النبي r ، ثم أدخلت السجن ، فسألوها عما حملها على ذلك ، وعن سبب وقوعها في فاحشة الزنا ! قالت : أبي لا سامحه الله . قالوا : كيف ؟ قالت : كان يرد الخطاب منذ أن كان عمري ثمانية عشر عاما .. فلما أكثر ردهم .. لم يطرق بابنا خاطب .. حتى جاوزت الثلاثين .. فأردت أن أنتقم من أبي بهذا الفعل .
هذا نموذج ، من نماذج الفتنة والفساد العريض .
إننا لا نرى هذا عذرا أمام الله U ، ولا نتمناه لبنات المسلمين ، ولكنها عظة وعبرة .
فتأملوا ـ أيها الأخوة ـ من هو سبب ذلك الفساد الكبير ؟ إنه الوالد ، الذي لم يدرك عواقب الأمور ، وما يترتب على مخالفة أمر النبي r . فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنحرص على تسهيل هذه السنة العظيمة ، ولنتعاون على البر والتقوى في هذا المجال ، ولا نتعاون على الإثم والعدوان .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ { ، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن عضل البنات وتأخير زواجهن ، وما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة ، لقضية خطيرة ، ومشكلة اجتماعية جديرة بالعناية والاهتمام ، وهي مسؤولية الجميع ، كل على قدر مكانته وعمله ، ولعل من واجبكم أيها الأخوة ، النصح والتوعية ، لمن وقع في هذا الشر المستطير ، والأمر الخطير ، وتذكيره بالله U ، وتحذيره من مغبة عضله . النبي r يقول في الحديث الصحيح : (( مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بَيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ )) حتى ولو كان عود مسواك . فإن كان عود السواك ظلما ، يدخل النار ، فكيف بعضل امرأة تقف في حيرة من أمرها ، فإن رفعت أمر أبيها إلى القضاء ، فقد يعاب عليها ذلك ، وإن صبرت وحبست ألامها ودموعها ، فقد تنفجر يوما من الأيام ، أم تموت ، فالموت أمر تتمناه ، كما تقول أحداهن ، ولكنها تعلم أن قاتل نفسه في النار ، أم تسير في الحرام ، إرضاء لرغبتها واستجابة لنداء فطرتها ، لا ، فهي الشريفة العفيفة ، فماذا تفعل .
أبتاهُ ما ذنبي وما الإجرام وبأي ذنب تقطع الأرحام
أبتاه إن الشيب قارف مفرقي وتتابعت من عمريَ الأعوام
أبتاه مابي جوعة فتسدها كلا ومابي علة وسقام
لكنَّ لي أملا إلى مستقبل من قبل أن تتصرم الأيام
أرنو إلى زوج يواسي روعتي ويكون لي في النائبات حسام
أرنو إلى طفل أقبل ثغره وإذا اشتكى بين الضلوع ينام
إن الشباب إذا تولى غدوة عند الرواح تُبَدَدُ الأحلام
ويكون حقا ما خشيت وينثني عود الشباب وتكثر الأوهام
مالي أرى للجاهلية صولة ولها بأيدي الوائدين زمام
أو مالنا في العالمين شريعة يهدي إلى تطبيقها الإسلام
يا من تسوقون البنات إلى الردى وأد البنات وعضلهن حرام
أيها الأخوة :
رسالة انقلوها مني ، وبلغوها عني ، لكل فتاة عضلت ، فإننا ـ والله ـ نحس بعظيم بلائها ، ونستشعر قدر معاناتها ، فلا نجد لها إلا الصبر ، فليكن أملها بالله كبير ، فهو سبحانه أهل لتفريج الكرب ، ورفع الهموم ، ودفع الغموم ، فلتصبر ولتحتسب ، فقد يكون في بلائها رفع لدرجاتها ، وتكفير لسيئاتها ، ونوصيها بالدعاء ، فإن للمظلوم دعوة مستجابة ، وليكن دعاؤها بهداية والدها ، ولا تفعل كما فعلت تلك المرأة ، التي عند موت والدها ، قالت له : حرمك الله الجنة ، كما حرمتني الزواج . وعليها أن تتقي الله فإن العاقبة للمتقين .
أسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، ورزقا واسعا ، وتوبة نصوحا إنه سميع مجيب . اللهم فرج هم المهمومين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضى المسلمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار . اللهم وفق ولاة أمرنا لهداك واجعل عملهم برضاك ، اللهم أحفظ لنا إمامنا خادم الحرمين الشريفين وانصر به دينك وكتابك وسنة نبيك r . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ { .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|