الإبلاغ بأهمية الفراغ
الحمد لله المتفضل على عباده بأنواع النعم ، صاحب الجود والعطاء والكرم ، } يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته سبحانه لعباده ، الأولين والآخرين ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
في هذه الأيام ، وبعد انتهاء العام الدراسي ، يتمتع كثير من الناس ، وخاصة الشباب منهم ، ومن هم من طلاب العلم عن طريق المدارس ، يتمتعون بالإجازة السنوية المعتادة ، والتي قد تتجاوز أيامها الشهرين تقريبا ، ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن هذا الفراغ الذي سوف يتمتعون به ، ويرتاحون من خلاله من عناء الدراسة ، والذهاب إلى المدارس ، من النعم العظيمة التي ينعم بها الله U على عباده ، ففي الحديث الصحيح ، يقول النبي r : (( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ )) ، فالفراغ نعمة عظيمة ، ولكنه إذا لم يستغل ويستعمل بما يقرب إلى الله U ، ولم ينتهز في التعامل مع الله ـ جل جلاله ـ بالإيمان والعمل الصالح ، فإن نتيجته الخسارة الأكيدة ، والغبن الذي لا شك فيه ، وهذا ما يقع به كثير من الناس ، فأكثر الناس يفرطون بصحتهم وبفراغهم ، فقليل هم الذين يستفيدون من الصحة والفراغ ، ولا أدل على ذلك من قول النبي r ، في هذا الحديث : (( مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )) وهذا ـ أيها الأخوة ـ يجعل العاقل ، يحاسب نفسه ، ويراجع أعماله ، كي لا يكون من هؤلاء الناس ، الكثيرين ، المغبونين ، المفرطين في نعم الله U .
أيها الأخوة :
ولأهمية الفراغ ، وضرورة الاستفادة منه ، والأمر باستغلاله ، يقول U : } فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ { يقول ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ ما معناه : إذا فرغت من عمل الدنيا فعليك بعمل الآخرة ، وإذا فرغت من عمل الآخرة فاشتغل بأمر الدنيا ، لا تجعل الدنيا تضيع عليك .
ويقول النبي r ، في الحديث الذي صححه الألباني ـ رحمه الله ـ : (( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرِمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ )) ففي هذا الحديث ، يوجه النبي r ، من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبه r نبيا ، إلى اغتنام هذه الخمس ، الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى ، قبل أن تحل الخمس التي تقضي عليها ، وتهدمها ، وتلغي وجودها ، الموت والمرض والشغل والهرم والفقر .
أخي المسلم ! حياتك فرصة ، فاغتنمها ، قبل أن يأتيك الموت ، فيصدق عليك قول الله تعالى : } حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ { فيقال لك : } كَلَّا ، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ { تطلب الرجعة ، لكي تعمل صالحا ، لا لتلهو وتلعب ، وتلهث وراء الدنيا وشهواتك وملذاتك ، تطلب الرجعة لكي تكثر من الصلاة ، لكي تتصدق ، لكي تصل رحمك ، لكي تحسن إلى الناس ، لكي تكثر من قراءة القرآن ، لكي تكثر من ذكر الله ، لكي لا تكذب ولا تظلم ولا تزني ولا تشرب ولا ترتشي ، لكي تترك أموراً كنت تفعلها تبين لك عند الموت خطرها وضررها ، ولكي تعمل أشياء كنت تتركها ، ألهتك نفسك ودنياك وشيطانك عنها ، أدركت عند الموت أهميتها .
أخي المسلم !
أغتنم هذه الصحة التي من الله U عليك بها ، وهذا النشاط الذي جعلته من أجل حطام فان ، ونعيم زائل ، فقد ينتهي يوما من الأيام ، ويحل مكانه المرض ، فتحاول أن تركع أو تسجد أو تذهب إلى المسجد ، فلا تستطيع ، تحاول أن تعتمر فلا تستطيع ، تحاول أن تحج فلا تستطيع ، تحاول أن تصل من بوصله يصلك الله ، فلا تستطيع ، أقعدك المرض ، إما في مستشفى ، أو حتى في بيتك ، يتقرب الناس إلى الله بزيارتك ، ويسألون الله العافية مما ابتلاك .
وهكذا أخي المسلم ، هذا الفراغ الذي من الله U به عليك ، استغله بما يرفع درجاتك ، ويعلي مكانتك يوم القيامة ، فسهرك وسفرك من أجل ملذاتك وشهواتك المحرمة ، سوف يكونان وبالا وشرا عليك يوم القيامة .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ وخاصة في أوقاتنا ، التي هي حياتنا ، وميدان فوزنا وفلاحنا ، ووسيلة سلامتنا ونجاتنا :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم } وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ولكي ندرك أهمية الوقت ، ونعمة الفراغ ، نتذكر تحذير الله U من إضاعته والتفريط فيه ، حيث أشار ـ سبحانه ـ في كتابه ، إلى ندم وحسرة من فرط في وقته في هذه الدنيا يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى : } يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي { وكما قال } : U أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحافظ على أوقاتنا ، أشد من محافظتنا على أموالنا وأنفسنا . ولنحرص على أوقات أبنائنا ، فقضية الفراغ بالنسبة لهم قضية خطيرة ، وكما قال القائل :
إن الفراغ والشباب والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
أسأل الله U أن يعينني وإياكم على حفظ أوقاتنا واستغلال فراغنا بما يفيدنا وينفعنا ، وأن يجعل الحياة زيادة لنا من كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|