أوقاتنا حياتنا
الحمد لله المنعم على عباده بوافر النعم ، المتفضل على خلقه بالجود والكرم ، اللطيف الخبير ، والسميع البصير ، الأكرم الذي علم الإنسان ما لم يعلم .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، أوجدنا من عدم ، وجعلنا خير الأمم .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، تعالى عما يقول من في عقيدته سقم .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لعباده الأولين والآخرين ، يقول U : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
عندما نرى فقيرا ، يمد يده يسأل الريال أو الريالين ، نفكر كثيرا ، ونمضي في صراع مع أنفسنا ، ونتردد هل نعطيه أم لا ، بل منا من تعجز يده أن تمتد إلى جيبه ، ليضع مبلغا زهيدا في يد هذا الفقير ، وقد يكون ما يخرج من جيبه ويضعه في يده ، سببا لنجاته من النار ودخوله الجنة ، يقول r في الحديث الصحيح : (( فاتقوا النار ولو بشق تمرة )) .
وعندما يعرض علينا مشروعا خيريا ، كبناء مسجد ، أو إيقاف مصحف ، أو رعاية يتيم ، أو شراء برادة ماء يشرب منها العطشى من الناس ، لا يأتي حتى في تفكيرنا أن نساهم في مثل هذا الأمر. مجرد التفكير في مثل هذه الأشياء التي نحن بأمس الحاجة إليها غدا ، يتعذر ـ أيها الأخوة ـ ، وعندما يطلب منا أحد محتاج ، قليلا من جهدنا بدون مقابل مادي، كإنجاز معاملة، أو توصيل مشوار، أو قضاء حاجة ، قد نسفهه ونزدريه، ونتهمه بالجنون ، وقد نشمت به في مجالسنا .
فنحن ـ أيها الأخوة ـ حريصون جدا على أموالنا ، وعلى جهودنا ، يستحيل أن نفرط بشيء منها دون مقابل ، الريال لا يخرج من جيوبنا إلا بعد تفكير عميق ، ودراسة جدوى ، وكذلك جهدنا وطاقتنا ، لا يمكن أن نبذل شيئا من ذلك إلا إذا كان هناك مردود ملموس ، يعود علينا بالنفع والفائدة الدنيوية البحتة .
ولكن ـ أيها الأخوة ـ تعالوا انظروا ، انظروا تفريطنا في وقتنا ، وعدم الاهتمام به ، نضحي به ونعطيه من هب ودب ، ونقضي عليه ، دون أي تفكير أو تردد ، إلى درجة أن وقتنا صار نهبا وغنيمة لمجالس الغفلة ، ووسائل الإعلام الفارغة ، والاستراحات المضيعة ، والأصدقاء الذين لا يبالون في أوقاتهم ، ولا يستثمرون لحظات حياتهم . بل ـ أيها الأخوة ـ صار تضييع الوقت ، والقضاء عليه ، وكما يقول بعضهم ـ تقزيره ـ هواية لكثير من المسلمين ، هذه حقيقة مرة لابد من الاعتراف بها وظاهرة خطيرة لابد من وضع الحلول العاجلة لها .
أيها الأخوة :
إن هذا الوقت الذي لا يبالي به كثير منا هو حياتنا على هذه الأرض ، وهو ميدان مستقبلنا ، ومزرعة آخرتنا ، يجب الاعتناء به واستغلاله واستثماره ، فاليوم الذي يمضي منه لا يعود ، واللحظة التي تفوت من لحظاته لا تعوض .
في الأسبوع الماضي ، في أحدى جوامع الدمام ، توفي رجل يوم الجمعة بعد تأديته للسنة الراتبة ، والأسبوع الذي قبله ، أيضا في يوم الجمعة توفي آخر هنا في حائل قبيل الخطبة ، وكما قال تعالى : } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ { فالعاقل يستغل وقته ، ويحرص عليه لأنه لا يدري متى يفاجئه أجله !
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذا الوقت الذي لا يبالي به بعضنا ، كان العقلاء يهتمون به ، ويشغلونه بطاعة الله U ، ويجعلونه وسيلة لرضا الله والفوز في الدار الآخرة ، فهذا الحارث بن أسد المحاسبي ، يقول : والله لوددت لو أن الوقت يشترى بالمال لأشترى بأموالي أوقاتا من الفارغين والغافلين أنفقها في سبيل الله ، ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : إضاعة الوقت أشد من الموت , لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها . وهذا الحسن البصري يقول : يَا ابْنَ آدَم ، إنَّمَا أنْتَ أيَّامٌ! ، فَإذَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ . وعبد الله بن مسعود t يقول : مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ ، نَقَصَ فِيْهِ أجَلِي ، وَلَمْ يَزِد فِيْهِ عَمَلِي .
فللوقت ـ أيها الأخوة ـ أهمية بالغة ، ولا أدل على ذلك من اهتمام الحريص على أمته به ، النبي r ، حيث عده نعمة من نعم الله U ، كما في الحديث الصحيح : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) ، بل ـ أيها الأخوة ـ لا أدل على أهمية الوقت ، من تحذير الله U من إضاعته والتفريط فيه ، حيث أشار ـ سبحانه ـ في كتابه ، إلى ندم وحسرة من فرط في وقته في هذه الدنيا يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى : } يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي { وكما قال U : } أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحافظ على أوقاتنا ، أشد من محافظتنا على أموالنا وأنفسنا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : } وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ { بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إننا نتحدث عن الوقت وأهميته ، ونحث على استغلاله ، ونذكر بضرورة الاهتمام به ، لأننا في هذه الأيام في بداية الإجازة السنوية ، حيث تفرغ الأبناء ذكورا وإناثا ، من هم الدراسة ، وعناء الذهاب إلى المدارس ، وغثاء قراءة الكتب ، كما يصف ذلك كثير منهم ، لاسيما أولائك الذين يعتبرون طلب العلم ، والسعي في نفع النفس والأهل والأمة ، من الأعمال الشاقة المكلفة المتعبة ، والسبب هو عدم استغلال الوقت ، ولذلك يفرحون ويسرون بالإجازة ، ليسرحون ويمرحون ويقضون أوقاتهم ، ما بين سهر بالليل ونوم بالنهار ، وكلا الأمرين يترتب عليهما مفاسد عظيمة ، من ترك للصلوات ، وقتل للأوقات ، وإعراض عن الطاعات ، بل ووقوع بالمحرمات والمنكرات .
لذلك ـ أيها الأخوة ـ حري بنا أن نحرص على أوقاتنا وأوقات فلذات أكبادنا ، فالإجازة فرصة لتعليمهم ما ينفعهم ، وشغل وقت فراغهم بما يصلحهم ، وكما قال القائل :
إن الفراغ والشباب والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
شهران أو أكثر، قد يلازم الابن والده، والبنت أمها، فيتعلمان منهما الكثير، الابن يتعلم معاني الرجولة، ويتعود الاعتماد على النفس، والبنت تتعلم من أمها ، مهام النساء، لتعتمد على نفسها بعد ذلك. وهذا قد يكون في هذه الأيام المقبلة المملوءة بالفراغ ، إذا استغلت استغلالا صحيحا، وخطط لها تخطيطا سليما. وأما إذا لم يخطط لها، وترك الفتى والفتاة، يسهر الواحد منهم طوال الليل عند القناة الفلانية، لمتابعة برنامج ساقط، وعند القناة الأخرى، لمشاهدة مسلسل هابط، وعند ثالثة، لرؤية جسد عار، وعند رابعة وخامسة وسادسة من قنوات الفساد والإفساد، التي كثر عددها، وتأكد خطرها، ووقع ضررها، فسوف تنتهي الإجازة، بشهادة ذات تقدير عال في عالم الانحراف والضياع والفساد لكل شاب وشابة .
فلنعمل أيها الأخوة على استغلال أوقات فراغ أبنائنا ، ولنهتم في هذا الأمر ، الذي سوف نكون أول من يجني ثماره ، نعم أول من يجني ثماره ، مهما كانت هذه الثمار ، حلوة أو فاسدة ، لذيذة أو مرة : } وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ { .
اسأل الله U أن يعينني وإياكم على حفظ أوقاتنا ، واستغلال فراغنا بما يفيدنا وينفعنا ، وأن يجعل الحياة زيادة لنا من كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|