علامة كمال التوحيد في القلب
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن التوحيد الذي هو حق الله على العبيد, يتفاوت في قلوب العباد, على حسب علمهم بمعناه والعمل بمقتضاه. وأن الذين يتلفظون بلا إله إلا الله مراتب ودرجات, على حسب علمهم بمعناها, وانجذاب قلوبهم وأرواحهم إلى الله إخلاصا ومحبة, وصدقا وانقياداً وذلا. ولذلك صار أهل لا إله إلا الله مراتب في الآخرة, وأن درجاتِهم في الجنة, وتكفيرَ خطاياهم, على حسب علمهم بها, وعملهم بمقتضاها, فإن منهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب, ومنهم من يُحاسب قبل دخولها, ومنهم من يكون مستحقا للعقاب ولكن الله يتجاوز عنه أو يقيض له من يشفع له, ومنهم من يعذب في النار قبل دخولها. فينبغي للمسلم أن يعتني بهذا الجانب, وأن يفتش عن نفسه ومدى تحقيقها لأوجب الواجبات وأحسن الحسنات. فأحسن الحسنات: لا إله إلا الله. وأوجب الواجبات: هو إفراد الله بالعبادة, وهو معنى: لا إله إلا الله, أي: لا معبود حق إلا الله، وأن لا يشرك معه أحدا كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة, كا لصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والدعاء، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل, والخوف والرجاء، والحب، وغيرها من أنواع العبادة، وأن يعبد الله بالحب والخوف والرجاء جميعا. وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار, وهو أول أسباب التمكين والنصر على الأعداء.
أيها المؤمنون:
إذا كان التوحيد يتفاوت في قلوب العباد, فما هي علامات كماله؟
أولها: عدم تقديم أي محبة على محبة الله تعالى, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان... فذكر أولهن, وهي: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ).
الثاني: العناية بالتوحيد والإهتمام به. فما مدى عنايتُك بالتوحيد, تعلّمًا ودعوة, فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بذلوا حياتهم كلها منذ أن بعثوا بالرسالة, بذلوها في تحقيق التوحيد والدعوة إليه. وهذا معلوم لمن قرأ القرآن والسنة وتأمل قصص الأنبياء فيهما. ولأن الشيء إذا تمكن من القلب شغل صاحبه به, وهذا أمر معروف في بداهة العقول, فإن من أحب شيئا وتعلق قلبه به صار شغله الشاغل. وهكذا من كمل التوحيد في قلبه وتعلق به.
الثالث: الكفر بالطاغوت, والكفر بكل دين سوى الإسلام. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله, وهو الشيطان الذي أمر بعبادة غير الله وزينها, كعبادة الأصنام والأشجار والأحجار والقبور والبشر والجن. كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾. والدليل على أن الكفر بالطاغوت لابد منه في كمال التوحيد, قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ﴾. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ), وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل التلفظ بها كافيا، ولا معرفة معناها، ولا الإقرار بها, ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، حتى يضيف إلى ذلك كله الكفر بما يعبد من دون الله, فيا لها من مسألة ما أجلها.
الرابع: الخوف من الشرك: فقد أخبر الله تعالى في كتابه عن شدة خوف إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام من الشرك, ودعائه لنفسه وبنيه بالسلامة منه, بقوله: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾, حتى قال إبراهيم التيمي: " من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ ". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. ففتش عن نفسك يا عبدالله وانظر, هل هذا الشعور موجود في قلبك؟.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: الخامس: من علامات كمال التوحيد: الولاء والبراء, والحب في الله والبغض في الله. قال تعالى في ذكر أخص أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾. وقال تعالى محذرا عباده المؤمنين حينما يقصرون في عقيدة الولاء والبراء وفي نصرة الإسلام: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ﴾. فالتفرقة العنصرية تدل على نقص التوحيد, والمحبة التي لا تبنى إلا على المصالح الدنيوية والهوى تدل على نقص التوحيد في القلب, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب لله وأبغض لله, وأعطى لله, ومنع لله, فقد استكمل الإيمان ). وما يجري اليوم في العالم العربي من العناية بالمواطنة وتقديمها على الأخوة الإيمانية مصادم لهذا الركن العظيم. وأخطر من ذلك أن يُجعل هذا الأصل العظيم دعوة للطائفية, ومعطل لإقامة الدولة المدنية التعددية. مع العلم أنه مصدر الأمن بإذن الله, وأول أبواب النصر والتمكين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها, أنت وليّها ومولاها، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها، اللهم احفظها مما يكيد لها، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، اللهم اكفهم شر الأشرار وكيد الفجار وبصّرهم بأعدائهم يا حي يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
|