الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى،
لقد ذكرنا في الخطبة الماضية مقدمةً عن أشراط الساعة وأن الإيمان بها من صلب العقيدة، وسوف نتكلم في هذه الخطبة
عن القسم الأول منها وهو الأمارات الصغرى التي ظهرت وانقضت :
أولها: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أول أشراط الساعة وأن بعثته تدل على قرب قيامها. فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) قال: وضم السبابة والتي تليها. وروى الحاكم عن قيس بن أبي حازم عن أبي جبيرة مرفوعا: ( بعثت في نسم الساعة ) والنسم هو النسيم: وهو أول هبوب الريح الضعيفة. أي بعثت: في أول أشراط الساعة.
الثاني:موت النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عوف ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي ... وذكر الحديث ) وكان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين, فقد أظلمت الدنيا في عيون الصحابة رضي الله عنهم عندما مات عليه الصلاة والسلام. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ( لما كان اليوم الذي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا ) رواه البخاري. قال ابن حجر: " يريد أنهم وجدوها تغيرت عمَّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة, لفقدان ما كان يمدهم من التعليم والتأديب " فبموته انقطع الوحي من السماء كما في جواب أم أيمن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم عندما زاراها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيا إليها بكت فقال لها: ( ما يبكيك ؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم, ولكني أبكي أن الوحي انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها ). رواه مسلم. فقد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت الناس لأن الله تعالى لم يكتب الخلود في هذه الحياة الدنيا لأحد من الناس بل هي دار ممر كما قال تعالى: ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون* كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن الموت حق وأن كل نفس ذائقة الموت حتى ولو كان سيد الخلق وإمام المتقين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وكان موته كما قال القرطبي: أول أمر دَهَمَ الإسلام.
الثالث: انشقاق القمر.
فقد اتفق العلماء على أن القمر قد أنشق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ( اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا أية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقين, حتى رأوا حِرَاءَ بينهما, وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عله وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين .
الرابع: زوال ملك كسرى وقيصر .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سَيُزِيلون ملك كسرى وقيصر, وسينفقون كنوزهما في سبيل الله روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده, والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ) وفي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ) يعني ملك كسرى وقيصر.
الخامس: ظهور نار من الحجاز.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى ) رواه البخاري ومسلم. وبصرى: مدينة معروفة بالشام.
وقد وقعت هذه الآية العظيمة على الصورة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان خروجها في منتصف القرن السابع الهجري سنة أربع وخمسين وستمائة. وتحدث العلامة ابن كثير في أحداث سنة أربع وخمسين وستمائة عن هذه النار ونقل عن العلماء الكبار الذين عاصروها ما يثير العجب. ومن العلماء الكبار الذين كانوا أحياء عند خروجها: الإمام النووي رحمه الله تعالى, وقد ذكرها في شرحه على صحيح مسلم. وقد ظهرت هذه النار بالمدينة فظنوا أنها الساعة ففزع بسببها الناس إلى المسجد النبوي وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنبهم وابتهلوا إلى الله تعالى وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء والصبيان من البيوت واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله وغطت حمرةُ النار السماء, وأيقن الناس بالهلاك وبات الناس بين مصلٍّ وتالٍ للقرآن وراكع وساجد وداع إلى الله عز وجل ومتنصِّلٍ من ذنوبه ومستغفر وتائب. ومد الله ضوء النار وأضاءت لها أعناقُ الإبل بالشام, مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُتِبَت بتيماء على ضوئها الكتب, وكانوا في بيوتهم تلك الليالي وكأن في دار كل واحد منهم سراج. ومن أراد المزيد من الكلام عن هذه النار فليرجع إلى ما كتبه ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية في أحداث أربع وخمسين وستمائة. وإلى ما كتبه النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم. اللهم ارزقنا تقواك واجعلنا نخشاك كأننا نراك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين؛ ولا عُدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً؛ أما بعد:-
وأما العلامات التي وقعت وهي مستمرة, أو وقعت مرة ويمكن أن يتكرر وقوعها فأولها: ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل, ويكثر فيها البلاء والأمور المنكرة. وأكثر الفتن التي ظهرت منبعها من المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان وهذا مطابق لما أخبر به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأس الكفر من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ـ يعني: المشرق ـ ) وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وبارك لنا في شامنا ويمننا فقال رجل من القوم : يا نبي الله وفي عراقنا قال: إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن وأن الجفاء بالمشرق ) ومن استقرأ التاريخ علم أن الفتن كانت تهب على الأمة الإسلامية من جهة المشرق, فمنها ثارت الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه, ومنها ثارت رياح الخوارج الذي يكفرون بالذنوب ويسلون السيف على المسلمين, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنتهم باقية إلى أن يخرج بين ظهرانيهم الدجال. ومن المشرق قامت ثورة الزنج بالبصرة في منتصف القرن الثالث وكذلك القرامطة, ومن اطلع على ما ذكر ابن كثير فيما أحدثوه في الأمة الإسلامية من فضائع لرأي ما يذهل العقول. ومن المشرق هبت رياح التتار في القرن السابع وظهرت الشيوعية والإلحاد في الصين وروسيا وهما في المشرق و سيكون ظهور الدجال ويأجوج ومأجوج من حيث المشرق.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
|