فضل الوقف والحث عليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا . يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما)
أما بعد ،،، فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلاله في النار .
عباد الله : لما قدم المهاجرون إلى المدينة ، استنكروا ماءها , ولم يكن فيها ماء يستعذب إلا بئر أو عين يقال لها ( رومه ) , وكان صاحبها يبيع القربة منها بمُدٍ , فقال النبي r : " من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدُلِي المسلمين وله خير منها في الجنة " وفي رواية : " بعين في الجنة " . أتدرون من سبق إلى هذه الفضيلة ؟ لقد سبق إليها السباق دائما إلى الإنفاق عثمان بن عفان رضوان الله عليه ، فاشتراها بخمسة وثلاثون ألف درهم , ووسع حفرها وجعلها للملمين يسقون منها ويشربون بلا ثمن .
( أخرجه البخاري معلقاً والإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمه والطبراني في الكبير والدارقطني وغيرهم ) فرضي الله عن عثمان ذي النورين زوج بنتي رسول الله r , ما أكثر أجره , وما أعظم ثوابه ، وما أسبقه إلى الإيقاف .
عباد الله : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، أمر عليه الصلاة والسلام ببناء مسجده ، وكان الموقع المختار أرضاً كانت لبني النجار فقال النبي r : يا بني النجار ثامنوني حائطكم هذا ـ يعني بيعوه علي بثمنه – فقالوا : لا والله يا رسول الله لا نطلب ثمنه إلا من الله . فأوقفوا أرضهم لمسجد رسول الله r , ( الحديث مخرج في صحيح البخاري ) الله أكبر هنيئا لكم يا بني النجار , فمنذ أن بُني مسجد رسول الله r على أرضهم إلى يومنا هذا وبنو النجار يأتيهم من الأجر مثل أجر من صلى وتعبد لله في تلك البقعة المباركة ، وسيبقى إلى آخر الزمان .
* ولما كثُر أهل الإسلام , وضاق مسجد رسول الله r , قال رسول الله r : من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد يخير منها في الجنة ؟ فسارع عثمان رضي الله عنه وأرضاه إلى ذلك وسبق , فاشتراها من حر ماله بخمسة وعشرين ألف درهم ووسع بها المسجد ( أخرجه الترمذي والنسائي وغيرهما وقال الألباني : صحيح لغيره ) , رضي الله عن عثمان , وتباً ثم تباً لألسن وأقلام طعنت في أمير المؤمنين عثمان .
أيها الناس : وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه من أكثر أهل المدينة مالاً من نخل وكان أنفس أمواله بستان يقال له ( بيرحاء ) ، وهو بستان جميل قرب مسجد رسول الله r يدخله النبي عليه الصلاة والسلام ويشرب من ماء فيه طيب ، فلما نزل قول الله تعالى في سورة آل عمران (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) جاء أبو طلحة إلى النبي r فقال : يا رسول الله إن الله تعالى يقول : (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) وإن أحب أموالي إليَّ ( بَيْرُحاء ) وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله , فضعها حيث أراك الله يا رسول الله , فقال النبي r : " بخ بخ ذلك مال رابح , وقد سمعتُ ما قلتَ , وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " , فقال أبو طلحة : أفعل ذلك يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ) أخرجاه في الصحيحين
إي والله إنها تجارة رابحة مع الله : " إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " ما أروعه من امتثال ومسارعة في تنفيذ مراد الله وما يحبه ويرضاه .
* وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه , أصاب أرضاً بخيبر , فأتى النبي r فقال أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس منه , فكيف تأمرني به ؟ فقال رسول الله r : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " , فتصدق بها عمر رضي الله عنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضعيف وابن السبيل . ( أخرجاه في الصحيحين )
* ولما قيل للنبي r : إن خالد بن الوليد رضي الله عنه منع الزكاة ولم يؤدها , قال عليه الصلاة والسلام : " أما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل الله ) متفق عليه , يعني أن خالد بن الوليد رضي الله عنه أوقف دروعه وآلات الحرب من السلاح والدواب التي يملكها على الجهاد في سبيل الله من حبه رضي الله عنه للجهاد .
وبعد أيها الناس : هكذا تنافس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الوقف الذي هو من أنفع أنواع الصدقات وأفضلها وأكثرها أجراً .
بل قال جابر رضي الله عنه : ( ما بقي احد من أصحاب محمد r له مقدره على الوقف إلا وقف ) , وقال الشافعي رحمه الله : ( بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من أصحاب رسول الله r من الأنصار تصدقوا بصدقات موقوفات ) .
عباد الله : الوقف هو عبارة عن حبس الإنسان مالاً من ماله عقاراً أو غيره مما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله , والتصدق بمنفعته وتسبيلها على الدوام .
فالواقف يوقف تصرفه وتصرف غيره بشئ من ماله ويتصدق بمنفعة هذا المال , صدقة منجزة في حياته وقبل وفاته فتخرج من ملكه وهو حي ، كأن يوقف عماره ويتصدق بمنفعتها وأجرتها في باب من أبواب الخير حال حياته , فإذا علق الصدقة بها بموته صارت هذه الصدقة وصيه وليست بوقف .
الوقف عباد الله من أفضل أنواع الصدقة وأنفعها وأكثرها أجراً ، بل إن الوقف هو الصدقة الجارية المعني في قول النبي r: ( إذا مات العبد أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له ) رواه مسلم .
الناس يعرفون شيئاً كثيراً عن الوصية ولكنهم لا يعرفون إلا الشيء القليل عن الوقف ومنافعه وآثاره وأبوابه وكثرة أجره , لذا نجد الإيقاف قد انحسر وقل في زماننا , وكاد يكون سنة مهجورة لدى كثير من الموسرين إلا في باب بناء المساجد .
أيها الناس :
الوقف صدقة جارية يجري أجرها ما جرى نفعها .
الوقف ضمان لدوام الانتفاع بالمال وتحقيق الاستفادة منه مدة طويلة .
الوقف وسيلة نافعة جداً من وسائل التكافل الأسري الاجتماعي .
الوقف من أفضل الحلول لكثير من المشكلات العصرية الاقتصادية بتنويعنا لمجالاته ،
ففي الوقف تحقيق لمصالح الأمة وتوفير لاحتياجاتها .
الوقف دعامة من دعامات الارتقاء بالمجتمع المسلم ودفع عجلة التنمية , لأن في الوقف توفير لدعم المشروعات الإنمائية , والأبحاث العلمية .
الوقف عباد الله لا ينحصر في بناء المساجد وعلى الفقراء والمساكين , بل يتعداها ليعم أبواباً كثيرة من أبواب البر والإحسان :
فيمكن أن يكون الوقف في مجال العلم والتعليم كإيقاف المدارس لأبناء الفقراء والمساكين والأيتام وغيرهم , والوقف على طلبة العلم ، وعلى طباعة الكتب , والمصاحف القرآنية ، والبحوث العلمية , وما الكراسي البحثية التي بدأنا نسمع عنها وتكثر في جامعاتنا إلا صورة جميلة من صور الإنفاق في مجال العلم ، ونتطلع إلى أن تتحول إلى أوقاف دائمة تدعم مسيرة التعليم
ويمكن أن يكون الوقف في مجال تحفيظ وتعليم القرآن الكريم .
ويمكن أن يكون في مجال التحجيج والإعمار وإفطار الصائمين .
ويمكن أن يكون الوقف في مجال الرعاية الصحية للناس من محاويج وغيرهم ، وذلك ببناء مستشفيات وافتتاح صيدليات خيرية وقفية .
ويمكن أن يكون في مجال الرعاية الاجتماعية كدور الأيتام ودور الأرامل والمسنين والعجزة ونحوها .
ويمكن أن يكون في مجال بناء الأسر وتزويج الشباب والفتيات وإعفائهم وتحصينهم من فتن الشهوات مما يقلل من مشاكل الانحراف في المجتمعات
ويمكن أن يكون في مجال الإعلام الهادف المحافظ في زمن الانفتاح الإعلامي الذي يسعى لحرف الناس عن معتقداتهم .
ويمكن أن يكون في مجال الدعوة إلى الله تعالى وكفالة الدعاة إلى الله وتوفير الوسائل الدعوية المناسبة لأهل العصر .
فاللهم اشرح صدر كل قادر على الوقف للإيقاف على مصلحة من مصالح المسلمين . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
فضل الوقف والحث عليه
الحمد لله الذي أرسل رسوله ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً ، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً أما بعد:
أيها الناس :
هل تظنون بأن الصدقة تنقص المال ؟ والنبي r يقول : " ما نقصت صدقة من مال " رواه مسلم .
" أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ "
سؤال طرحه النبي r على الصحابة فقالوا رضوان الله عليهم : ما منا احد إلا ماله أحب إليه , فقال عليه الصلاة والسلام : " فإن ماله ما قدم , ومال وراثه ما أخر " رواه البخاري
نداء إلى المسلمين عامة وإلى أهل اليسر والغنى خاصة :
أحيوا سنة الوقف لتطيلوا في أعماركم وتكثروا حسناتكم , وتجري عليكم بعد وفاتكم .
أحيوا سنة الوقف في جميع أبواب البر فإنه ليس لكم من مالكم إلا ما تصدقتم به فامضيتم , وما سوى ذلك فأنتم ذاهبون وتاركوه للناس " رواه مسلم "
" ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مره وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم "
تركتم ما أعطيناكم من أموال الدنيا وراء ظهوركم للوارثين من بعدكم .
" يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين*ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها "
قال رسول الله r : " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علماً نشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه , أو مسجد بناه , أو بيتاً لأبن السبيل بناه , أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته " رواه ابن ماجه
فلا تحقروا القليل أيها المسلمون ، فيمكن لمن لا يستطيع الاستقلال بعين وقفية أن يشارك بجزء من ماله حسب طاقته مع غيره في وقف مشترك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم r يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " ، ويقول عليه الصلاة والسلام : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب , ولا يقبل الله إلا الطيب , فإنه الله يتقبلها بيمينه , ويربيها لصاحبها كما يرى أحدكم فلو حتى تكون مثل الجبل العظيم " .
فاللهم لك الحمد على فضلك وعظيم إحسانك . اللهم تغمدنا ووالدينا برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها مرضانا ، وترحم بها موتانا يا أرحم الراحمين . اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، ووفق اللهم إمامنا بتوفيقك ، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه على الخير وتدله عليه يا رب العالمين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل معصيتك ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا ذ الجلال والإكرام ، اللهم اكفنا واكف بلادنا شر الأشرار وكيد الفجار يا عزيز يا جبار ، اللهم من أرادنا وديننا بسوءٍ فعليك به اللهم اشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز اللهم من حمل علينا السلاح فاقتله بسلاحه إنك أنت السميع العليم . اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات . اللهم صلي وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
|