وجوب الأخذ بأسباب النصر
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ؛ ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له؛ ومنْ يضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ؛ وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ؛ صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:- عباد الله:
اتقوا الله تعالى, واعلموا أن من حكمته سبحانه, أن يبتليَ عباده المؤمنين بالقيام بِنُصرةِ هذا الدين, والإعتزازِ به, والحرصِ على ظهورِه, وعدمِ اليأس من ذلك. لأن الله تعالى وعد بظهور هذا الدين على جميع الأديان, واستمرارِه إلى قيام الساعة, كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ). وفي رواية: ( لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ). وقال أيضاً: ( لَيْبُلغَن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام, بِعِزِّ عزيز, أو بِذُل ذليل, عِزّاً يُعِز الله به الإسلام, وذلاًّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر ). فدين الله لابد وأن يظهر ويعلو على جميع الأديان. والغَلَبَةُ لأهله بإذن الله, ولو كره الكافرون واستبعد ذلك المنافقون والمخذلون. فيجب على المسلمين أن يعوا ذلك, وأن يبذلوا أسباب نصرة هذا الدين بالطرق المشروعة, فإنْ فَعَلوا نَصَرهُم الله, وإن تخاذلوا وركنوا إلى الدنيا, فإنهم لن يضروا الله شيئاً, وسوف يذهب بهم, ويستبدلهم بخير منهم, كما قال تعالى: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
ففي هذه الآية, يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه, وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه. وأَن لِله عِبَاداً مخلصين، ورجالاً صادقين، قد تكفّل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافاً، وأقواهم نفوساً، وأحسنهم أخلاقاً،
أجلُّ صفاتهم أن الله ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾, ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. قال أهل العلم: " ادّعى قوم محبة الله, فأنزل الله هذه الآية ". لأنها الدليل القاطع على صدق محبة العبد لله. فالجيل الذي يريده الله وينصر به دينه, هو الجيل الذي يجعل هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه, يأخذ منه العقيدة والعبادة والسلوك.
ومن صفاتهم أنهم: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولِينِهِم ورِفقِهم ورأفتِهم، ورحمتِهِم بهم وسهولةِ جانِبِهم. وأما على الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله, أعزة، قد اجتمعت هِمَمُهُم وعزائِمُهُم على معاداتِهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، مقتدين في ذلك بسلف هذه الأمة, وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, الذين وصفهم الله بقوله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾. فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبدُ ربَّه في سخطه عليهم، ولا تمنعُ الغِلظَةُ عليهم والشدة, دعوتَهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم, ونَفْعُهُ عائدٌ إليهم.
ثم قال في وصفهم: ﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾, بأموالهم, وأنفسهم، وبأقوالهم وأفعالهم. ويدعون إلى الله, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ﴿ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ﴾ بل يقدمون رضا ربِّهم, والخوفَ من لومِه على لومِ المخلوقين، وهذا يدل على قوةِ هِممِهم وعزائِمِهم، فإن ضعيفَ القلب ضعيفَ الهمة، تنتقض عزيمتُه عند لوم اللائمين، وتفتُرُ قوَّتُه عند عذل العاذلين, لِضعف إيمانه, ونقص التوحيد في قلبه.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يحبهم ويحبونه, باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ عباد الله:-
إن فيما سمعتم من الأدلة بشارةً عظيمة، لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإِنْ أُدِيلَ عليه الباطلُ في بعض الأحيان, لِحكمةٍ يريدها الله تعالى، فآخر الأمر, الغلبةُ والانتصار، ومَنْ أصدق من الله قيلا. فالواجب هو الأخذ بأسباب نصرة هذا الدين مع الثقةِ بالله وعدمِ اليأس, وتذكّروا أنه لا يَصُلُح أمرُ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ به أولُها.
اللهم اجعلنا من أتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، اللهم استعملنا في طاعتك, وانصر بنا دينك يا قوي يا متين، اللهم وفقنا لما يرضيك عنّا وجنبنا ما يسخط علينا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حببّ إليهم الخير وأهله وبغضّ إليهم الشر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|