لِلْغَاْفِلِ اَلْمَغْرُوْر خَطَرُ اَلْفُجُوْرِ
الْحَمْدُ للهِ غَافِرِ الذُّنُوبِ ، وَسَاتِرِ الْعُيُوبِ ، الْقَائِلِ : ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّهُ مِنْ لُغُوبٍ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الصَّفِيُّ الْمَحْبُوبُ ، وَبِسُنَّتِهِ تَسْتَنِيرُ الْبَصَائِرُ وَتَحْيَا الْقُلُوبُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : تَقْوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَوَصِيَّةُ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ عَلَيْهَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَحِبَّتِي فِي اللهِ ـ وَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ الْفُجُورَ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَدُخُولِ النَّارِ ، وَمِنْ صِفَاتِ الْعُصَاةِ وَالْفَسَقَةِ وَالْكُفَّارِ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَفْسِيرِهِ : يَقُولُ : أَنَجْعَلُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ﴿ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ﴾ ! يَقُولُ : كَالَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ وَيَعْصُونَهُ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ ﴾! يَقُولُ : الَّذِينَ اتَّقَوُا اللهَ بِطَاعَتِهِ وَرَاقَبُوهُ ، فَحَذِرُوا مَعَاصِيَهُ ؛ ﴿ كَالْفُجَّارِ ﴾ ! يَعْنِي: كَالْكُفَّارِ الْمُنْتَهِكِينَ حُرُمَاتِ اللهِ . وَالْفُجُورُ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ مَعْنَاهُ الْفِسْقُ وَالْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ ، وَيَكْفِي فِي سُوئِهِ وَشَنَاعَتِهِ وَقُبْحِهِ : فَضْلُ وَحُسْنُ وَجَمَالُ ضِدِّهِ ، وَبِضِدِّهَا تُتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا : ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ : « إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا » . تَأَمَّلْ - أَخِي الْمُسْلِمُ - لِكَيْ تُدْرِكَ خَطَرَ الْفُجُورِ وَالْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ وَتَرْكِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّرْعُ . الْمُتَّقُونَ الْأَبْرَارُ الصَّادِقُونَ ، الْمَوْعُودُونَ النَّعِيمَ ، يُقَابِلُهُمُ الْفُجَّارُ وَمَوْعِدُهُمُ النَّارُ وَالْجَحِيمُ ، وَلِذَلِكَ الْفُجُورُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا مِنْ خُلُقِ الْمُتَّقِينَ ، بَلْ هُوَ طَرِيقُ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، وَمِنْ أَبْرَزِ عَلَامَاتِهِ وَسِمَاتِ أَهْلِهِ : الِانْحِرَافُ عَنْ شَرْعِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالِاسْتِهَانَةُ بِتَعَالِيمِهِ ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ ، الْفَاجِرُ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ بِذُنُوبِهِ وَلَا يَرَاهَا شَيْئًا ـ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يَفْعَلُ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ وَلَا يُؤَنِّبُهُ ضَمِيرُهُ ، وَلَا تَلُومُهُ نَفْسُهُ ، وَلَا يَشْعُرُ بِجُرْمِهِ ، يَقُولُ عَبْدُاَللهِ بِنُ مَسْعُوْدٍ ـ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ ـ : إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا ، أَيْ : أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَطَارَ . الْمُؤْمِنُ يَخَافُ مِنْ ذُنُوبِهِ ، لِإِيمَانِهِ بِرَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَصْدِيقِهِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَعِزِّ سُلْطَانِهِ ، وَخَوْفِهِ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ وَمَكْرِهِ ، وَإِدْرَاكِهِ لِغِنَاهُ عَنْهُ وَحَاجَتِهِ كَعَبْدٍ لَهُ إِلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ يَرَى ذَنْبَهُ كَمَا قَالَ اِبْنُ مَسْعُوْدٍ : كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَعَكْسُ ذَلِكَ تَمَامًا ، الْفَاجِرُ فَاسِقٌ مُسْتَهْتِرٌ لَا يُبَالِي بِذُنُوبِهِ ، يَسْتَسْهِلُ مَعَاصِيَهُ وَكَبَائِرَ ذُنُوبِهِ لَا لِخِفَّتِهَا ، وَلَكِنْ لِخِفَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ سُبْحَانَهُ ، وَلِذَلِكَ لِلْفُجُورِ آثَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ ، مِنْهَا نَزْعُ لِبَاسِ تَقْوَاهُ وَسَتْرِ حَيَائِهِ ، وَخِسَّةُ وَدَنَاءَةُ نَفْسِهِ ، يَكْفِي فِي أَثَرِ الْفُجُورِ عَلَى صَاحِبِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَن كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَمَ فَجَرَ » . نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفُجُورِ وَأَسْبَابِهِ ، وَمِنْ كُلِّ عَمَلٍ يُفْضِي إِلَيْهِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : الْفُجُورُ مِنْ كَبَائِرِ الْأُمُورِ ، وَمِنْ أَخْطَرِ الشُّرُورِ ، فَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ فِي الْمُجْتَمَعِ ، وَلِذَلِكَ إِذَا مَاتَ الْفَاجِرُ تَسْلَمُ مِنْهُ الْبِلَادُ وَيَسْتَرِيحُ مِنْ شَرِّهِ الْعِبَادُ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: « مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ». وَأَخِيرًا ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ مِنْ مَسَاوِئِ الْفُجُورِ : أَنَّهُ يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ - يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ». أَسْأَلُ اللهَ لِي وَلَكُمْ عِلْمًا نَافِعًا ، وَعَملًا لِوَجْهِهِ خَالِصًا ، وَرِزْقًا وَاسِعًا إِنَّهُ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبٌ . اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ ، وَجَنِّبْنَا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ لَا ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ ، ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. عِبَادَ اللهِ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|