اَلْدِّيْنُ وَمَاْ يَنْبَغٍيْ لِلْمُسْتَأْمَنِيْن
الْحَمْدُ للهِ ، شَرَحَ صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَلَمْ يَجِدُوا حَرَجًا فِي الِاحْتِكَامِ إِلَى شَرِيعَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَلَا فِي رُبُوبِيَّتِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ،جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ . أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ : يَعِيشُ بَيْنَنَا بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِدِينِنَا ، الَّذِينَ قَدِمُوا لِبِلَادِنَا بِعُقُودٍ وَعُهُودٍ ، وَأُعْطُوا الْأَمَانَ لِلْعَيْشِ بَيْنَنَا ، وَمِنْ كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِهِ ، بَيَّنَ لَنَا كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَ هَؤُلَاءِ ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِ الْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمْ وَعُقُودِهِمْ ، وَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ ظُلْمِهِمْ بِأَيِّ شْكَلٍ مِنَ الْأَشْكَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » حَجِيجُهُ ، أَيْ: خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَا يَجُوزُ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ التَّعَدِّي عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، بَلْ وَلَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُمْ وَإِخَافَتُهُمْ، وَيُعَامَلُونَ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ . يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ : وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ –لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرِصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَهُمْ وَزَرْعَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ لِيَرْفِقَ بِهِمْ، فَقَالَ : وَاللهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَمَا يَحْمِلُنِي حُبِّي إِيَّاهُ وَبُغْضِي لَكُمْ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِلَ فِيكُمْ، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كُنَّا نَكْرَهُهُمْ وَنَكْرَهُ دِينَهُمْ ، إِلَّا أَنَّ دِينَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا الْقِيَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْنَا لَهُمْ ، وَمَنْ أَدْخَلَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمُسْلِمُ بِعَقْدِ أَمَانٍ وَعَهْدٍ فَإِنَّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو الصَّحِيحِ : « مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَامًا » . الْمُعَاهَدُ ؛ هُوَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ، وَالْمُسْلِمُونَ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتهِمْ أَدْنَاهُمْ » ، وَيَسْعَى بِذِمَّتهِمْ أَدْنَاهُمْ أَيْ : إِذَا أَعْطَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدًا وَذِمَّةً لِغَيْرِ مُسْلِمٍ ، وَجَبَ عَلَى بَاقِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوفُوا لَهُ عَهْدَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : لَمَّا أَجَارَتْ أُمُّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - رَجُلًا مُشْرِكًا عَامَ الْفَتْحِ وَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أَنْ يَقْتُلَهُ ذَهَبَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ». وَمِمَّا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ بَيْنَنَا : أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ ، وَنُطْعِمَ جَائِعَهُمْ ، وَنَتَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرِهِمْ ، وَنَصِلَ مَنْ قَطَعَ مِنْهُمْ ، وَمَا أَجْمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ ، وَإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الدِّينِ لَهُمْ ! وَهَذَا أَمْرٌ جَائِزٌ شَرْعًا ، يَقُولُ سَمَاحَةُ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّاتِهِ وَوَالِدِينَا أَجْمَعِينَ : الصَّدَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ إِذَا كَانُوا لَيْسَ حَرْبًا لَنَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ . فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ ، لِتَفُوزُوا بِمَا وَعَدَكُمْ ، وَتَنَالُوا رِضَا رَبِّكُمْ . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : وَكَمَا يَجِبُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ بَيْنَنَا ، عَدَمُ ظُلْمِهِمْ وَعَدَمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ ، يَجِبُ عَلَيْهِمْ لَنَا وَفِي مُجْتَمَعِنَا مُرَاعَاةُ شُعُورِنَا كَمُسْلِمِينَ ، وَاحْتِرَامُ مَشَاعِرِنَا ، وَالتَّقَيُّدُ بِأَنْظِمَةِ دَوْلَتِنَا الَّتِي يَسْتَظِلُّونَ فِي حِمَايَتِهَا وَرِعَايَتِهَا ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُرَوِّجُوا عَقَائِدَهُمُ الْبَاطِلَةَ ، وَلَا عَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةَ ، وَلَا أَفْكَارَهُمُ الضَّالَّةَ ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَا مَكَانَ لَهُ بَيْنَنَا . يُبَلَّغُ عَنْهُ ، وَيُسْعَى لِلْجِهَاتِ الْمُخْتَصَّةِ لِتَرْحِيلِهِ وَإِبْعَادِهِ . أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِي وَلَكُمْ عِلْمًا نَافِعًا ، وَعَمَلًا لِوَجْهِهِ خَالِصًا ، وَسَلَامَةً دَائِمَةً إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ وَأَمِتْنَا شُهَدَاءَ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ . اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا ، وَاسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا خِيَارَنَا وَاجْعَلِ اللَّهُمَّ وِلَايَتَنَا فِي عَهْدِ مَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَع رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا ، وَجَمِيعِ أَمْوَاتِنَا ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ ، وَعَافِهِمْ وَاعْفُ عَنْهُمْ ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُمْ ، وَوَسِّعْ مَدَاخِلَهُمْ ، وَجَازِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ إِحْسَانًا ، وَبِالسَّيِّئَاتِ عَفْوًا وَغُفْرَانًا ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ . ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. عِبَادَ اللهِ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ .فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ،وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ،وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ،وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|