بَعْضُ
الدُّرُوسِ الْمُسْتَفادَةِ مِن جائِحَةِ كُرُونا
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس:
اتقُوا اللهَ تعالى، واعلمُوا أَنَّ الابتِلاءَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ لابُدَّ مِنْ
وُقُوعِها، قَدَّرَها الحَكِيمُ العَليمُ الخَبِيرُ، لِحَكَمٍ كَثيرَةٍ. ومِمَّا
يَدُلُّ عَلَى ذلكَ قَوْلُهُ تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
). وقال تعالى: ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ). أي: نَخْتَبِرُكُم
بِالشِّدَّةِ وبِما تَكْرَهون، وكذلك بالخَيْرِ والسَّعَةِ وبِما تُحِبُّون.
لِيَتَبَيَّنَ المُؤْمِنُ والموقِنُ مِن المُرْتابِ، والصادِقُ مِن الكاذبِ، والصابِرُ مِن الجَزِعِ، والراضي مِن المُتَسَخِّطِ، والشاكِرُ مِن الجاحِدِ
والكافِرِ. ولَقَدْ مَرَّ بالعالَمِ وباءٌ عامٌّ وجائِحَةٌ، ضَعُفَتْ أمامَها
الحِيَلُ بِكُلِّ إمْكانِيَّاتِها، وتَغَيَّرَتِ بِسَبَبِها كَثيرٌ مِن المَظاهِرِ
والسلوكِيَّاتِ البَشَرِيَّةِ، وَقُّيِّدَت بِسَبَبِها حَرَكَةُ الناسِ واقْتِصادُ
الدُّوَلِ. وتَنَوَّعَت بِسَبَبِها مَواقِفُ البَشَرِيَّةِ وانْطِباعاتُها.
وتَعَلَّمَ أَصْحابُ القُلُوبِ الحَيَّةِ مِنها دُروساً وعِبَرا، فَمِن تِلْكُمُ
الدُرُوسِ والعِبَرِ:
ظُهُورُ مَواقِفِ المُؤمِنين ومَواقفِ
الكافِرِين: فالمؤمنُ الصادِقُ في إِيمانِهِ، يَعْلَمُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ اللهُ بِقَدَرٍ، حَتى ما يُصِيبُ الناسَ مِن السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فَيَصْبِرُ في الضَرَّاءِ، ويَشْكُرُ في السَّراءِ، ويَعْلَمُ أَنَّه لَنْ
يُصِيبَهُ إِلا ما كَتَبَ اللهُ لَه، وأَنَّ ما أَصابَهُ لَمْ يَكُنْ
لِيُخْطِئَهُ، وأَنَّ ما أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِيُصِيبَه. وأَمَّا الكافِرُ فلا
إيمانَ عِنْدَه بذلك، فَتارَةً يَعْتَرِضُ على اللهِ، وتارةً يَلْعَنُ المُصِيبَةَ
وَيَجْزَعُ ويَسْخَطُ، وتارَةً يَنْسِبُها إِلى المَخْلُوقِينَ ويَتشاءَمُ بِهِم
ويُعادِيهِم بِسَبَبِها. وإِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ ظَنَّ أَنَّ ذلك حَصَلَ له
لأَنَّه مُسْتَحقٌّ لِذلكَ، وأَنَّ ذلك بِجِدِّهِ وشَطارَتِه فقط، ولذلك يَبْطُرُ
ولا يشْكُر، ولا يَنْسِبُ النِّعْمَةَ لله.
وَمِن الدُّرُوسِ أَيضًا: ظُهُورُ طِيبِ مَعادِنِ المُؤْمِنِين، وتَكاتُفِهِم، وتَعاوُنِهِم في بَذْلِ أَسْبابِ السلامةِ، والوُقُوفُ مَعَ المُتَضَرِّرِين بِسَبَبِ هذه الجائِحَةِ، لِأَنَّهُم كالجَسَدِ
الواحِدِ، وقَدْ تَمَثَّلَ ذلك جَلِيًّا في وُلاةِ أَمْرِنا وَفَّقَهُم الله، وما
أَصْدَرُوه مِن قَراراتٍ، شَهِدَ لَها الواقِعُ، وعَدَّها القَريبُ والبَعِيدُ
مَواقِفَ بُطُولِيَّة ومُشَرِّفَةً، وجُهُودًا قَلَّ نَظيرُها، بَلْ وَصَلَ
الأَمْرُ إلى التَضْحِيَةِ بِبَعْضِ المُكْتَسَباتِ الاقْتِصادِيَّةِ، اخْتِياراً
ولَيْسَ اضْطِراراً، لِضَمانِ سَلامَةِ الجَمِيعِ دُونَ تَفْريقٍ بَيْنٍ مُواطِنٍ
ومُقِيمٍ. إضافَةً إلى جَمِيعِ كَوادِرِ الدَّولةٍ، وما قامُوا بِهِ مِن جُهودٍ
قَلَّ نَظِيرُها، كُلٌّ بِحَسَبِهِ. فَجَزاهُمُ اللهَ خَيراً، وجَعَلَها سَبَبًا
لِسَعادَتِهِم في الدَّارَيْن. فَحَقٌّ عَلَى كلِّ مواطنٍ ومُقيمٍ أن يُقدِّرَ هذهِ الجهود وذلك بالتعاونِ المتبادلِ والأخذِ بالتعليماتِ وأسبابِ السلامةِ، لأنها اتُّخذتْ مِن أجلِهِ.
ومِن الدروسِ المُسْتَفادَةِ: عَجْزُ
البشريةِ أَمامَ أَمْرِ اللهِ، وضَعْفُ حِيلَتِهِم، مَهْمَا بَلَغَتْ
إِمْكاناتُهُم الفِكْرِيَّةُ والمادِّيَّةُ، وأَنَّ اللهَ إذا أَرادَ بِقَوْمٍ
سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَه، مِمَّا يَجْعَلُ المؤمِن يُوقِنُ بِأَن أَوَّلَ أَبْوابِ
النجاةِ، هُو اللًّجوءُ إلى اللهِ، والتَّضَرُّعُ والاستغفارُ، ولُزومُ الطاعة.
ومِن الدروسِ المُسْتَفادَةِ: أَنْ
يَتَذَكَّرَ المؤمنُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ )، والمُعَقّباتُ: هي
الملائِكَةُ، يَحفَظون العَبْدَ مِن كُلِّ جِهَةٍ، لا يَسْتَطِيعُ مَخْلُوقٌ كائِنًا
مَنْ كانَ أَنْ يُوصِلَ إليهِ مَكْرُوهاً حتى يأْذَنَ اللهُ بِذلك. وذلك حينَ يَرَى
الكثيرَ مِن الأشْخاصِ السَّلِيمِين يُخالِطُونَ المُصابِين ولا يُصيبُهُم شَيْءٌ، وهذا يُقَوِّي جانِبَ التَّوَكُّلِ لَدَى العَبْدِ، ويَبْعَثُ في قْلْبِهِ
الطُّمَأْنِينَةَ والسكينَةَ، ويُزِيلُ مِن قَلْبِهِ الخَوْفَ والهَلَعَ، ويَمْنَحُهُ الشَّجاعَةَ، ويَحُثُّهُ عَلَى بَذْلِ الأسبابِ الشَّرْعِيَةِ التي
تَحْصُلُ بِها الحِمايَةُ مِن اللهِ، والتي مِنها حِفْظُ حُدُودِهِ، ولُزُومُ
طاعَتِه، وقِراءَةُ الأورادِ، وكَثْرَةُ الدعاءِ.
وَمِن الدُّرُوسِ المُسْتَفادَةِ مِن هذه
الجائِحَةِ: إِحْياءُ البُيُوتِ بالعِبادَةِ والتِّلاوَةِ والصلاةِ، بِسَبَبِ
تَعْلِيقِ الصلاةِ المُؤَقَّتِ في المساجد، وزادَ ذلك جمالاً تَعاوُنُ أَهْلِ
البَيْتِ على ذلك، الصغيرُ والكبيرُ والذّكَرُ والأْنْثَى: صلاةُ الفريضةِ، وصلاةُ
الليلِ، وخَتْمُ القُرْآنِ, ودِراسَةُ السُّنَّةِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عبادَ الله:
مِنْ أَعْظَمِ فَوائِدِ الابْتِلاءِ: أَنَّ اللهَ تعالى أَحْياناً يُؤَدِّبُ
عِبادَه المُؤْمِنين، ويُعالِجُ أَرْواحَهُم، ويُداوِي نُفُوسَهُم بالبَلاءِ، لِأَنَّهُ سُبْحانَه أَعْلَمُ بِهِم مِن أَنْفُسِهِم، فَلَوْلا أَنَّهُ سُبْحانَهُ
يُدَاوِي عِبادَه بَأَدْوِيَةِ المِحَنِ والابْتِلاءِ أَحْيانًا لَطَغَوْا
وَبَغَوا وَعَتَوْا، واللهُ سُبْحانَه إذا أرادَ بِعَبْدٍ خَيْراً سَقاهُ أحْيانًا
دَواءً مِن الاِبْتِلاءِ والامْتِحانِ كَيْ يُهَذِّبَ نَفْسَهُ مِن بَعْضِ
الأَمْراضِ التي تُعِيقُ سَيْرَهُ إلى اللهِ والدارِ الآخِرَةِ، فإنَّ هُناكَ
أَمْراضًا في القلبِ، لا تَزُولُ إلا بالابْتِلاءِ، زيادَةً عَلَى ما يَحْصُلُ
لَهُم مِن تَكْفيرِ السَّيِّئاتِ وَرِفْعَةِ الدَّرجاتِ.
اللهم
إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفوَ والعافيةَ، في ديننا
ودنيانا, وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين
أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائِلِنا، ومِن فَوْقِنا، ونَعُوذُ
بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتالَ مِن تَحْتِنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها
ومولاها، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين
وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، اللهم
إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلا عن
بلادنا وسائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين
وعدوان المعتدين، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها،
اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها وخارجها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور
والآفات، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع
كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |