وقفات مع أثر ابن مسعود رضي الله عنه، والتحذير من البدع وفتنة الخوارج وبيان خطر بعض قروبات الأدعية والأذكار
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ لا يُعْبَدُ إِلا بِما شَرَعَ، لا بِالأَهْواءِ واسْتِحْساناتِ
العُقُولِ والبِدعِ. وتَذَكَّرُوا أَنَّ خَيْرَ الهَدْيِ وأَحْسَنَه، هُوَ هَدْيُ
محمدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، وأَنَّه تَرَكَنا عَلَى البيضاءِ، لَيْلُها
كَنَهارِها، لا يَزِيغُ عَنْها إلا هالِكٌ، وأَنَّ خَيْرَ مَنْ سَلَكَ هذا
الهَدْيَ هُمْ أَصْحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَهُمْ أَمَنَةٌ
لِلأُمَّةِ، ومِيزانُ أَهْلِ السُّنَّةِ، عن أَبِي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله
عنه، أَنَّه أَتَى عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ رضي اللهُ فقَالَ: " رَأَيْتُ
فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ
حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصَى، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً،
فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً،
وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً "، فقَالَ ابنُ
مَسْعُودٍ: " فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ " قَالَ: " مَا قُلْتُ
لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتظارَ أَمْرِكَ ". فَمَضَى ابنُ
مَسْعودٍ وَمَضَوْا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ
عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ "
قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصَى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ
وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: " فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا
ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْ مُفْتَتِحُوا بَابِ ضَلَالَةٍ ". قَالُوا: وَاللَّهِ
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: "
وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ
مِنْكُمْ "، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ:
رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ
الْخَوَارِجِ ".
يا لَهُ مِنْ أَثَرٍ عَظيمٍ، تَضَمَّنَ
دُرُوساً وعِبَراً، يَحْتاجُها المُسْلِمون عُمُوماً، والدعاةُ وطُلاَّبُ العِلْمِ
عَلى وجْهِ الخُصُوصِ. فَإِنَّ أَبا مُوسى رضي اللهُ عَنْه، لَمَّا رَأَى عَمَلاً
مِن أَعْمالِ الخَيْرِ في المَسْجِدِ، لكنه عَمَلٌ مُخالِفٌ لِهَدْيِ النبيِّ صلى
الله وسلم، لَمْ يَتَعَجَّلْ في الحُكْمِ، بَلْ ذَهَبَ إلى مَن هُو أَكْبَرُ
وأَقْدَمُ مِنْه، وأَكْثَرُ مُلازَمَةً لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كَيْ
يُطْلِعَه عَلى الأَمْر.
وَفِيهِ مِن العِبَرِ، أَنَّ قَصْدَ
الخَيْرِ لا يَكْفي، بَلْ لا بُدَّ مِنْ مُوافَقَةِ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُم قالُوا
ما أَردْنا إلا خَيرا.
وفِيهِ مِن العِبَرِ: عَدَمُ الاسْتِهانَةِ
بِالبِدَعِ الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّها تَكْبُرُ وتَتَطَوَّرُ حَت تَكونَ غَلِيظَةً.
وفي ذلك مِصْداقٌ لِما هُو مَنْقُولٌ عن السَّلَفِ, أَنَّ: " الشَّيطانَ
أَفْرَحُ بِالبِدْعَةِ مِن المَعْصِيَةِ، لِأَنَّ المَعْصِيَةَ يُتابُ مِنها، والبِدْعَةُ لا يُتابُ مِنْها ". وَصَدَقُوا في ذلك، فَإِنَّ العاصِيَ الذي
يَشْرَبُ الخَمْرَ، أَوْ يَكْذِبُ، أَوْ يَسْرِقُ، يَعْلَمُ أَنَّه عَلى
مَعْصِيَةٍ، وَأَنَّه على خَطَرٍ إذا لَمْ يَتُبْ. وَأَمَّا مَنْ يَتَقَرَّبُ إلى
اللهِ بِالبِدَعِ لا يَتُوبُ، لِأَنَّه يَرَى أَنَّه يَعْبُدُ اللهَ بِعَمَلِهِ، وَلِذلكَ لَمْ يَقْتَنِعْ هَؤُلاءِ بِكَلامِ عالِمِهِم ومُفْتِيِهِم وكَبِيرِهِم، وقالُوا: نَحْنُ نُسَبِّحُ ونُهَلِّلُ ونَذْكُرُ اللهَ، فَكَيْفَ يَنْهانا؟!!.
ثُمَّ كانت النهايَةُ أَلِيمَةً، حَيْثُ آلَتْ بِهِم تِلْكَ البِدْعَةُ إِلى ما
هُو اَكْبَرُ مِنها، حَتى انْتَهَتْ بِهِم إِلى الغُلُوِّ والتكفيرِ، وإِراقَةِ دماءِ
المُسلِمين. مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ الذَّنْبَ الكَبِيرَ يَبْدَأُ صغيراً لا
يُفْطَنُ له. فالشِّيعَةُ الرافِضَةُ بَدأُوا بِتَفْضيلِ عَلِيٍّ عَلَى أبِي
بَكْرٍ وعُمَرَ، ثُمَّ كَفَّرُوهُما وأَكْثَرَ الصحابَةِ، وأَعْطَوْا آل البيتِ
مِن الخصائِصِ ما لا يجوزُ إلا لله. وعُبَّادُ القُبُورِ بَدأُوا بِتَشْيِيدها، والصلاةِ عِنْدَها، وبناءِ المَساجِدِ عَلَيها. وهكذا الشّأْنُ في البِدَعِ
كُلِّها.
وكذلك تَدُلُّ هذه القِصَّةُ عَلَى خَطَرِ
الاسْتِقْلالِ بِالفَهْمِ والرَّأْيِ والاِنْعِزالِ عَن العِلْمِ والعُلماءِ الكِبارِ -عُلَماءِ الكِتابِ والسُّنَّةِ السائِرِينَ عَلَى دَرْبِ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم وأَصْحابِه- وتَرْكِ الأَخْذِ عَنْهُم. فإِنَّ ذلك سَبَبٌ لِذهابِ العِلْمِ، وانْتِشارِ الفَوضَى في الفَتْوَى.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: لَقَدْ شاعَ في أَوساطِ
المُجْتَمُعِ، خُصُوصاً مَعَ سُهُولةِ التَواصُلِ عَبْرَ أَجْهِزَةِ الجوَّالِ، ما
يُسَمَّى بِالقرُوباتِ والمَجْمُوعاتِ، التي تٌعْنَى بِالأًذْكارِ والدّعَواتِ
والصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بِحَيثُ يَتَّفِقُونَ عَلى عَدَدٍ
مُعَيَّنٍ يَذْكُرُونَه ويَتَداوَلُونَه، بَلْ وَيَحُثُّونَ عَلى نَشْرِهِ، ويَشَجِّعُون على ذلك.
وهذا يا عِبادَ اللهِ مِن البِدعِ، يَجِبُ
تَرْكُهُ ونُصْحُ مَن يَفْعَلُه. فَإِنَّ الأَذْكارَ والدَّعَواتِ، مِن أَعْظَمِ
القُرُباتِ إِلى الله، ولكن لا يَجُوزُ أَن تَكُونَ بِالطُّرُقِ المَحْدَثَةِ.
ومَن كان حريصاً على تشْجِيعِ إِخْوانِه، فَلْيَحُثَّهم عَلى الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ زَمانٍ ولا مكانٍ ولا
طَريقَةٍ مُعَيَّنَةِ إِلا بِدَليلٍ مِن القرآنِ والسنةِ. كَأَنْ يُذَكِّرَهُم
بَيْنَ حِينٍ وآخَرَ، بِفَضْلِ سَيِّدِ الاستغفارِ، أَو بَعْضِ أَذْكارِ النَّوْمِ
وشَيْءٍ مِنْ فَضْلِها، وغَيْرُ ذلك. ويُخْلِصُ النِّيَّةَ في ذلك لله، وله
الأجْرُ إِنْ شاءَ الله، سَواءً أَخَذُوا بِنَصِيحَتِه أَو تَرَكُوها.
اللهم
أَعِنا على ذكركِ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما
علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت
خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال
من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح
أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم
واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا
عزيز، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ لبلادنا
دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها
وخارجها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور، واجعلها أقوى مما كنت، اللهم أصلح أهلها
وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|