من
التمس رضا الله بسخط الناس
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا اللهَ تعالى, واعلمُوا
أَنَّ رِضَا الناسِ غايَةٌ لا تُدْرَك, وأَنَّه لا يُمْكِنُ لأحَدٍ كائِناً مَنْ
كان, أَنْ يَنالَ رضا كُلِّ الناس, فَعَلَيْكُم بِما يُصْلِحُكم فافْعَلُوه,
والْتَمِسُوا رضا اللهِ فإِنَّه الغاَيَةُ التي لا تُتْرَك. وأما الاهْتِمامُ
بِرِضا الناس, فإن مَفاسِدَه كثيرَة, لأنَهُ يَجْعَلُ العَبْدَ يَقَعُ في
مَعْصِيَةِ اللهِ, مِنْ أجْلِ مُجَاراةِ الناسِ وإرْضَائِهِم, وقَدْ يُصِيبُهُ
الهَمُّ والحُزْنُ إذا ذَمُّوهُ أو تَرَكُوا مَدْحَهُ أوْ خالَفُوا رأْيَه, وهو
أيضاً سَبَبٌ لِتَرْكِ الدعوةِ والنصيحةِ وإنكارِ المُنْكَر, محاباةً ومُداراةً،
أو خوفاً مِنْ خسارَةِ مَحبَّةِ الناس. بَلْ إنَّ هذِه الْخَصْلَةَ سَبَبٌ
لِتَرْكِ الإخلاصِ في عِبادَةِ الله, الذي هو أَحَدُ شَرْطَي قَبُولِ العَمَلِ
الصالِح. فإن أَمْرَ الإِخلاصِ عظيم, وتَرْكَهُ خَطير. فقد كانت قُلُوبُ الصالِحين
تَنْزَعِجُ مِن أجْلِه, وتَجْتَهِدُ كثيراً في مُعالَجَتِهِ في قُلُوبِهِم
ونِيَّاتِهِم. بل إنَّ فِعْلَ العبادةِ مِن أجْلِ الناس, سَبَبٌ لأن يُسْحَبَ
الشَّخْصُ على وجهِهِ, حتى يُلْقَى في النار.
واسمَعُوا هذا الحديثَ الذي كادَ أَنْ يُغْشَى
على أبي هُريرةَ رضي اللهُ عنه قبلَ أن يَتْلُوَه على الناس: عِنْدَما قالَ لَهُ
شُفَيٌّ الأَصْبَحِيُّ رحمهُ اللهُ, حَدِّثْنِي حديثاً سمعتَه مِن رسولِ الله صلى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ, عَقِلْتَه وَعَلِمْتَه؟ فَنَشَغَ نَشْغَةً شَدِيدةً ثُمَّ
أفاق, أي: شَهِقَ شَهْقَةً شديدةً حتى كادَ يُغْشَى عليهِ مِن شِدَّةِ الخوف,
وتَكَرَّرَ معَه هذا الأَمْرُ ثلاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أن يَذْكُرَ الحديث, ثُمَّ
قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقْضَى
عليهِ يومَ القيامةِ .... ) فَذَكَرَ ثلاثة: رجُلٌ قاتَلَ في أرضِ المَعْرَكةِ
لِيُقالَ جريء, ورجُلٌ تَعَلَّمَ لِيُقالَ عالمٌ, وقرأَ القرآنَ لِيُقالَ قارئٌ,
ورَجلٌ أنْفَقَ في السُّبُلِ التي يُحِبُّها اللهُ لِيُقالَ جَوادٌ. وكُلُّ واحِدٍ
مِن هؤلاءِ الثلاثةِ يقولُ فيهِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( ثُمَّ أُمِرَ بِهِ
فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ).
فانْظُرُوا يا عبادَ اللهِ ما الذي يَجْنِيهِ
العبدُ مِن السَّعْي في رضا الناسِ والتَطَلُّعِ لِمَدْحِهِم. لَقَدْ جَعَلَ
هؤُلاءِ الثلاثةَ يَعْملُونَ أعمالاً جَلِيلَةً, وعباداتٍ عظيمةً, طَلَباً لِرِضا الناسِ وثَنائِهِم, فَحَصَلَ
لَهُم ما أرادُوا في الدنيا, وفَرِحُوا بِهِ قَلِيلاً, ثُمَّ كانت النتيجةُ وبالاً
عليهِم في الآخرة.
فَإِيَّاكُم يا عِبادَ اللهِ والتساهُلَ في
ذلك, واجْعَلُوا هَمَّكُم رضا اللهِ, والبُعْدَ عن سَخَطِه, واعلَمُوا أنَّ الْمُخالفاتِ
التي يقَعُ فيها الْمُجتَمَعُ لها أسبابٌ كثيرة, ومِن تِلكُمُ الأسباب:
المُبالَغَةُ في مُجاراةِ الناسِ ومُجامَلَتِهِم ولَو كان على حِسابِ دينِهِم.
وإلا: فَمَا الذي يَجْعَلُنا نَرى
المُنْكَرَ ونَسْكُتُ عنه؟
وما الذي يَجْعَلُنا نرى مُخالفاتِنا في
الأفراحِ والوَلائِمِ والمُناسباتِ, وما يُحِيطُ بِها مِن إسرافٍ وتبذيرٍ
ومُنْكَر, ومَعَ ذلك تَجِدُنا عندَ التطبيقِ جُبَنَاءَ لا نَجْرُؤ على مَخالفةِ ما
عليهِ الناس, ولا نَسْتَطِيعُ أنْ نَفْعَلَ ما يُرْضِي الله؟ مَعَ العلمِ أنَّنا
نَعْتَرِفُ بأنها أخطاءٌ ومُخالفات.
والأَمْرُ أَشَدُّ في حَقِّ العلماءِ
وطُلَّابِ العِلْمِ, في فَتاوَاهُم وَتَوْجِيهاتِهِم وتَعامُلِهِم مع الواقِعِ, خُصُوصاً
مَعَ كَثْرةِ الفِتَنِ والنَّوازِل, وكَثْرَةِ مَنْ يُزاحِمُهُم اليومَ, مِن الْمُتَطَفِّلين
على العِلمِ, بِسَبَب سُهُولَةِ التَّمَشْيُخِ في أيّامِنا هذهِ, عَبْرَ
الفضائِيَّاتِ وشَبَكاتِ التواصُل. والذين أربَكُوا الساحَةَ العِلْمِيةَ
وشَوَّشُوا على العوامِّ, حتى صارَت الفَتْوَى بِسَبَبِهِم صَعيداً واسِعاً
لِبَعْضِ المُنْدَسِّين أو المَفْتُونين الباحثين عن الشُّهْرَةِ والجماهيرِ
والمُتابِعِين, والذين صَرَفُوا وُجُوهَ الناسَ عن العلماءِ, عن طَريقِ الفتاوَى
التي تَتَناسَب مع أهواءِ الناسِ ورَغَباتِهِم. فالواجِبُ على أهْلِ العِلْمِ
وطُلاَّبِ العلمِ هو الثباتُ, ولُزُومُ مَنْهَجِ أهلِ العلمِ, ومُراقبَةُ اللهِ في
إصدارِ الفْتْوى, سواءً قَبِلَها الناسُ أو رَدُّوها.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم،
وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى
تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً
لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: إنَّ إِيثَارَ رضا اللهِ على
رِضَا المَخْلُوقين, يَتَأكَّدُ تأكيداً شديداً على مَن تَوَلَّى أَمْراً مِن
أمورِ المُسْلِمين ومَصالِحِهِم, في وَزَارةٍ أو رِئاسَةٍ أو إدارة. فإن ذلكَ مِنْ
أَعْظَمِ ما يُعِينُ المَسْئُولَ على أداءِ مُهِمَّتِه. وأَوْلَى المَسْئُولين:
صاحِبُ الوِلايَةِ العُظْمى – وَلِيُّ الأَمْر – فإنَّه أَشَدُّ الناسِ فِتْنَةً
في هذا البابِ العظيم. خُصُوصاً عندَما تَشيعُ الفَوضَى وتَكْثُرُ المَطالبُ,
ويَكْثُرُ مَن يُشيرُ عليه بِحَقٍّ أو باطِل. والحُكَّامُ بِحاجةٍ ماسَّةٍ إلى
رِضا رعاياهُم.
ولكن الواجِبَ الْمُتَحَتِّمَ على الحاكِم,
أنْ يلْجأَ إلى اللهِ, وأن يَسْألَ نَفْسَه: ما الذي يُريدُه اللهُ مِنِّي؟ وما هو
القرارُ الذي يُرْضِي الله؟ بِغَضِّ النَّظَرِ عَن رِضا الناسِ وَسَخَطِهِم,
لأن رِضا الناسِ لا يَنْفَعُ مَعَ سَخَطِ الله, فَهُوَ مَرهونٌ بِعَدَمِ
مُخالَفَتِه للشَّرْعِ, والناسُ لا بُدَّ وأنْ يُوجَدَ فيهِم مَنْ يَرْضَى ومَن
يَسْخَط, ولأنَّ رضا الناسِ جميعاً مُسْتَحيل, ويَكْفِي أن اللهَ تعالى قالَ
لأفْضَلِ الخَلْقِ وأَعْدَلِ الخَلقِ وأرْحَمِ الخَلْقِ بِالخَلْقِ محمدٍ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( لَوْ أَنْفَقْتَ مَافي
الأَرضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِم ولكنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم
). ومِمّا يَدُلُّ على أن الحاكِمَ أوْلَى الناسِ بِهذا الواجِبِ العظيم, أنَّ
معاويةَ رضي اللهُ عنه لما كان خليفةً على المسلمين, كتبَ لِعائِشَةَ رضي اللهُ
عنها أنْ تُوصِيَه, فكَتَبتْ له: ( سلامٌ عليك, أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: مَن التَمَسَ رضا اللهِ بِسَخَطِ الناسِ كفاه اللهُ مُؤْنَةَ
الناس, ومَن التَمَس رِضا الناسِ بِسَخَط اللهِ, وَكَلَهُ اللهُ إلى الناس,
والسلامُ عليك ).
اللهم
ارزقنا تقواك, واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة, ونعوذ بك
من سخطك والنار يا ذا الجلال والإكرام، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
وفقهنا في دينك، اللهم أرنا الحق حقا, حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا
وارزقنا اجتنابه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة
مهتدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة
عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة
نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم
يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا
عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين
في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين
من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك
بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم
فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم
سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه
البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |