خطبة جمعة بتاريخ / 7-3-1437 هـ
الْمِيزَان
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن في تقوى الله خلَفًا من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف .
أيها المؤمنون عباد الله : في اليوم الآخِر مواطن عظيمة يشتد خطبُها ويعظم كربها ويكبُر هولها ؛ جديرٌ بكل مؤمن أن يستذكرها وأن يقوِّي في نفسه الإيمان بها لما لذلك من عظيم الأثر عليه في تهذيب سلوكه وإصلاح عمله واجتنابه للظلم ؛ ومن ذلكم يا معاشر المؤمنين الميزان الذي يوضع يوم القيامة لوزن الأعمال والذي قد جاء ذكره في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفيه إظهار كمال عدل الله جل في علاه ويرى كل عاملٍ أعماله كلها ما له وما عليه بوزنٍ هو بوزن مثاقيل الذر ، فيرى فيه كل عمله من خيرٍ وشر ؛ فجدير بكل مؤمن أن يعدَّ لهذا اليوم عدَّته وأن يزن أعماله في هذه الحياة استعدادًا وتهيؤًا للوزن يوم العرض على الله .
أيها المؤمنون : وقد ذكر الله عز وجل هذا الميزان في آياتٍ عديدة من كتابه سبحانه ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47] ، وقال الله عز وجل: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف:8-9] ، وقال جل وعلا: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون:101-104] ، وقال الله تعالى : ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة:6-11] ، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] .
أيها المؤمنون عباد الله: إنه ميزانٌ حقيقي له كفتان ؛ في كفةٍ توضع الحسنات ، وفي كفة توضع السيئات ، ويرى فيه العبد وزنًا بمثاقيل الذر لأعماله كلها خيرها وشرها .
عباد الله : ولقد دلَّ القرآن على أهمية تربية النشئ على معرفة الميزان والاستعداد له ؛ قال الله تعالى فيما ذكره من وصية لقمان الحكيم لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:16] .
عباد الله : وهو ميزانٌ يستوعب الأعمال كلها مهما كثرت وعظمت وتعددت ، وقد جاء في السنة ما يدل على عظم كبر الميزان ؛ ففي مستدرك الحاكم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْ ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ لِمَنْ يَزِنُ هَذَا ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : ولقد دلت السنة أن هذا الميزان توزن فيه أعمال العباد وتوزن فيه صحائف الأعمال بل ويوزن فيه العامل نفسه :
vأما وزن الأعمال ؛ فقد جاء في الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ)) خرَّجه البخاري ومسلم ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ)) .
vأما وزن الصحائف ؛ فقد جاء في المسند وجامع الترمذي وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث المشهور بحديث البطاقة وفيه : ((فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)) .
vأما وزن العامل؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 105])) ، وجاء في المسند وغيره لما ضحك بعض الصحابة من دقة ساقي ابن مسعود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)) قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : جديرٌ بكل واحد منَّا أن يعدِّ لهذا الميزان عدته ، وأن يتهيأ للوزن بصالح الأعمال وسديد الأقوال ، وأن يتجنب المآثم والمظالم . يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، وتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا» .
اللهم يا رب العالمين أصلح لنا الأقوال والأعمال والنيات ، وجنِّبنا يا ربنا الخطايا والسيئات ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ التأمل في نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بميزان يوم القيامة له أثرٌ عظيم جدًا على نفوس العباد في إصلاحها وإقامتها على طاعة الله جل في علاه وفي البُعد عن المأثم والمظالم ، وتأملوا في هذا الباب قصةً عجيبة : روى الترمذي في جامعه والإمام أحمد في مسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي ، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟» فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : (( يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ)) ، فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47] )) فكان لهذه الآية حين تلاها النبي عليه الصلاة والسلام وقعًا عظيما وأثرًا مباركًا على ذلك الرجل فَقَالَ: «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ».
أيها المؤمنون عباد الله : إن مثل هذه المحاسبة والوزن للأعمال يثمر ثمرة عظيمة في إصلاح النفوس ، وتهذيب السلوك ، وإقامة العمل ، والبعد عن الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
نسأل الله جل في علاه أن يصلح لنا شأننا كله ، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر . اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم إنا نعوذ بك أن نزلَّ أو نُزل أو نظلِم أو نُظلَم أو نجهل أو يُجهل علينا ، اللهم سلِّمنا وسلِّم منا ، اللهم أعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها وأعذنا من شر الشيطان وشركه يا رب العالمين .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوله وآخره ، علانيته وسره ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html |