يعظم خطر اللسان والكلام زمان الفتن
16/10/1434هـ
الحمد لله المتفرد بالثناء والمجد إجلالاً وإعظاماً ، وسبحانه وبحمده خص عباده بغامر آلائه تفضلاً وإنعاماً ، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله ، وقدوةُ العالمين سمتاً وصمتاً وكلاماً ، صلى الله عليه وعلى آله الذين أكرمهم ربهم إكراماً ، وعلى صحابته الذين جعلوا بينهم وبين الثرثرة ورديء الكلام لجاماً ، فكانوا بغعلهم وقولهم أعلاماً ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان دواماً ، وسلم سلاماً سلاما . أما بعد
فيا أيها المسلمون : من أراد لنفسه فوزاً وفلاحا ولعمله قبولاً وصلاحاً ولذنبه غفراناً ، فعليه بتقوى الله والقول السديد ، قال ربنا المجيد : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) .
عباد الله : منَّ الله على الإنسان باللسان وعلمه البيان والتواصل بالكلام قال ربنا الرحمن على سبيل الامتنان : (( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ )) وقال : (( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )) وجاءت نصوص الكتاب والسنة بقيود شرعية لهذا اللسان تلجمه عن إخراج الكلام الباطل وغير النافع والحرام ، وتحثه على قلة الكلام بل وعدمه إلا إن كان بخير ، وأخبر الله سبحانه أن هذا اللسان مراقب : (( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )) ، وأنه يوم القيامة سيشهد هو بنفسه على صاحبه : (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) ، فإن أنكر صاحبه أو لم يرض ، خُتِم على الفم وشهدت الجوارح : (( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) ، ثم يخلى بين اللسان وبين الكلام فيخاطب الجوارح ويقول لهن : ( بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ ) أخرجه مسلم .
أيها المسلمون : كثر الكلام في زماننا وتساهل الناس فيه ، وأصبح الكل يتكلم ، الكبير والصغير والذكر والأنثى والعالم والجاهل ، أصبحوا يتكلمون بما لهم الحق وما ليس لهم الحق أن يتكلموا به ، ويتحدثون بما يعنيهم وما لا يعنيهم ، وبما يحسنون وما لا يحسنون ، وبما يعرفون وما لا يعرفون ، مرة يتحدثون بمسائل صغارٍ وكبارٍ من أمور الدين والشريعة ، ومرة بقضايا السياسة ، وثالثة بالقضايا الاجتماعية ، ورابعة بالأوضاع الاقتصادية ، وخامسة وسادسة ، حتى اشتعلت المجالس وانشغلت بما لا ثمرة له من الكلام ، وكثرت فيها الخصومات واللجاج والصخب والغضب والاختلاف ، وزاد الطين بِلة وساند اللسان بنقل الكلام وتكثيره تقدم وسائل الاتصال وتوفر برامج التواصل الاجتماعي والمحادثات وسهولة المراسلات والمكاتبات ، فهذا (فيس بوك) وذلك (واتس أب) وهناك (تويتر) وما أدراك ما (تويتر) ، فضلا عن غيرها من الوسائل ، مما جعل شأن الكلام عند الكثيرين يخف ميزانه ، فلا يلقون بالاً لما يقولون ويكتبون وينشرون ، فصار الكلام لا يحول بين المرء وبينه إلا ضغطة زر أو أزرار في جواله أو حاسوبه ثم لا يحسب بعد ذلك حساباً ، وحدِّث عن القص والنسخ واللصق التي تجعل الكلام ينتشر في الآفاق في ثوان معدودة .
لقد كان تلقي الكلام في الماضي بالألسن ، والقول بالأفواه كما قال تعالى : (( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )) ، لكن أصبح يزاحم التلقي بالألسن في زماننا : التلقي بالعيون والقول بالأنامل والإنسان غافل غير عاقل لما يبث وينقل من الكلام .
أيها الناس : شأن الكلام عظيم ، وشأن اللسان (والأصابع في زمننا) خطير ، ويعظم خطر الكلام زمان كثرة الفتن ــ زمان كثرة الفتن الذي تنطق فيه الرويبضة ، ويعجب فيه كل ذي رأي برأيه ، ويكون كل حزب بما لديهم فرحون ــ ، ذلك لأن زمان الفتن مظنةٌ لزلل الأفهام والآراء ، بل وحتى الحليم تدعه حيران ، ويصبح الكلام في الفتن شهوة للناس يُنَفِّسون به عن النفوس من ضغوط الزمن كما يزعمون ، وربنا جل جلاله يذم لنا كثرة الكلام وبث الأخبار زمن الفتن ويأمرنا برده لأهله فيقول : (( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) .
عباد الله : إن من الكلام من أهله العلماء لا يحق لأحد أن يتحدث به غيرهم ، ومن الكلام من أهله الساسة والولاة ، ومنه من أهله أهل الاختصاص ، وأحسن الناس إسلاما ( من ترك ما لا يعنيه ) .
ومن الكلام ما يفرق أو يزيد في فرقة ، ومن الكلام ما يفتح باب فتنة أو يشعلها أو يزيد في اشتعالها ، ومنه ما هو كفر وناقض للإيمان ، ومنه ما هو قذف وغيبة ونميمة وفحش وظلم وبهتان ، والمسلم الحق ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، فيتأكد في حق كل مسلم أن يترك كثيراً من الكلام خوفاً من الوقوع في هذه الآثام .
ولأجل أن زلات الكلام من وسائل الشيطان في نزغه بين أهل الإسلام ، أمر الله عباده باختيار أحسن الكلام فقال : (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً )) .
وبعد أيها الناس : اسمعوا إلى جملة متوالية من أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، جاءت في شأن الصمت وذم كثرة الكلام وشأن اللسان وحفظه ، لعلها تكون لجاماً قوياً لأفواهنا عن كثرة الكلام
ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفل خيراً أو ليصمت ) ، فأمامك خياران لا ثالث لهما لإرضاء الرحمن : إما الكلام بخير أو الصمت .
وفي الترمذي قال صلى الله عليه وسلم : ( من صمت نجا ) حديث صحيح .
وفي سنن الترمذي وأبي داوود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال: ( أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك ) حديث صحيح ، فالصمت وإمساك اللسان هو سبيل النجاة .
وفي حديث معاذ بن جبل الصحيح المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأن ملاك الأمر كله ( أن يكف عليه لسانه ) وقال له : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : ( أكثر خطأُ ابن آدم في لسانه ) حديث صحيح رواه الطبراني وأبو الشيخ والبيهقي .
وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم : ( من يضمن لي ما بين لحييه ـ يعني لسانه ـ وما بين رجليه ـ يعني فرجه ـ أضمن له الجنة ) .
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شرّ الشيطان وشركه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) .
وفي سنن الترمذي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر اللسان فتقول له : اتق الله فينا فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ) ، فيا لله ما أرفع شأن استقامة اللسان إذ بها استقامة القلب والإيمان والجوارح .
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبن فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) وفي حديث آخر في البخاري : ( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم وفي رواية يهوي بها سبعين خريفاً في النار )
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وهو حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ) فاختر لنفسك القرب أو البعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و"الثرثارون" هم الذين يكثرون الكلام الخارج عن الحق ، فالثرثرة : كثرة الكلام وترديده . وفي رواية البخاري في الأدب المفرد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شِرَارُ أُمَّتِي الثَّرْثَارُونَ، الْمُتشَّدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ ) فلا تكن يا عبد الله من شرار الأمة بكثرة الثرثرة .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ) فما أكثر القيل والقال في مجالسنا ، فلماذا لا نترك القيل والقال حتى لا يكرهنا ربنا أو يكره حالنا .
وأرعوا سمعكم وانتباهكم لهذا الحديث : روى ابن أبي الدنيا وأبو يعلى بسند حسن عن أنس رضي الله عنه قال : استشهد رجل منا يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئا لك يا بني الجنة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يدريك ، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره ) .
ولأبي يعلى والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا فبكت عليه باكية فقالت : وا شهيداه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يدريك أنه شهيد ، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، أو يبخل بما لا ينقصه ) لا إله إلا الله وسبحان الله ، قد ينزل القتيل في المعركة عن منزلة الشهيد بسبب أنه كان يتحدث فيما لا يعنيه ، مما يدل على سوء أثر الكلام فيما لا يعني الإنسان .
وهذه النصوص النبوية يا عباد الله في شأن الكلام وخطر اللسان على وجه العموم ، ويعظم الخطر ، ويكثر الشرر ، ويكبر الضرر زمان الفتن .
فاتقوا الله عباد الله واحفظوا ألسنتكم وأناملكم ، وأمسكوا عليكم ألسنتكم تنجوا ، ولا تقفوا ما ليس لكم به علم : (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )) .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا أرحم الراحمين، اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظ ألسنتا من الحرام والآثام ، واستعملها في طاعتك يا رحمن يا رحيم، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وجوامعه وأوله وآخره، اللهم إنا نعوذ بك من شرور الشياطين وكيدهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الظلمة المعتدين اللهم عليك بالنصيريين الظالمين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين في سوريا اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين ، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، واقض الدين عن المدنين، اللهم لا تقتلنا بعذابك ولا تهلكنا بغضبك وعافنا بين ذلك، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وتولّ أمرنا وأصلح أعمالنا وأحوالنا وقلوبنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-121.html |