عاشوراء وحال المسلمين
الحَمْدُ لله مالك يوم الدين ، جعل العذاب جزاء للكافرين ، وقال في كتابه المبين : } وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، له : } الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له : } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، الطيبين الطاهرين ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، يقول سبحانه في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
غدا يوافق العاشر من شهر محرم ، وهو عاشوراء الذي كان النبي r يهتم به لمكانته ، ويعتني به لعظم شأنه ، ففي الحديث الذي رواه البخاري ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ r الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ، قَالَ : (( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ )) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ .
ويقول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ r يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ .
فيوم عاشوراء ـ أيها الأخوة ـ له مكانة عظيمة ، ومنزلة سامية ، ويكون ذلك بصيامه ، كما فعل النبي r ، وصيام يوم بعده أو قبله ، وذلك لمخالفة اليهود ، بأمر النبي r ، وليس من الدين ، ولا من شرع رب العالمين ، فعل شيء غير الصيام ، كما يفعل الرافضة في ذلك اليوم ، وقد سأل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن ما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل ، والاغتسال ، والحناء والمصافحة ، وطبخ الحبوب وإظهار السرور ، وغير ذلك ، فقال : لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ r وَلا عَنْ أَصْحَابِهِ , وَلا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ , وَلا غَيْرِهِمْ . وَلا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا , لا عَنْ النَّبِيِّ r وَلا الصَّحَابَةِ , وَلا التَّابِعِينَ , لا صَحِيحًا وَلا ضَعِيفًا , لا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ , وَلا فِي السُّنَنِ , وَلا الْمَسَانِيدِ , وَلا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومناسبة عاشوراء ، مناسبة ينبغي للمسلمين أن يراجعوا فيها حساباتهم ، ويحاسبوا فيها أنفسهم ، فنجاة موسى ، وغرق فرعون ، وانتصار الحق على الباطل ، هو ما ينبغي أن يتأمله المسلمون في مناسبة عاشوراء ، وهو ما يجب أن يحاسبوا أنفسهم من خلاله ، وإن كان ـ أيها الأخوة ـ اليهود تقوى شوكتهم ، كلما جاءت مناسبة عاشوراء ، بالاعتداء على المسلمين في فلسطين ، والرافضة تتحد كلمتهم من أجل نياحهم ، وتمزيق أجسادهم ، فإنه يجدر بنا ، أن نقف مع أنفسنا ، ونتأمل في مقدار بعدنا ، عن طاعة ربنا ، التي ما حل بنا ما حل ، إلا بسبب فقدها ، وعدم اهتمامنا بها ، وكما قال تبارك وتعالى : } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { .
أيها الأخوة :
الله U ، نجى موسى ، بغرق فرعون ، ليس من أجل أسم موسى ، ولا من أجل نسب فرعون ، إنما من أجل الإيمان والكفر ، ومن أجل الطاعة والمعصية ، فموسى ليس معه إلا عصا يهش بها على غنمه ، كما قال تعالى : } وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى { ولكنه يحمل رسالة ، ويمثل عقيدة صحيحة ، ويستمد أمره من الله U ، ولذلك ضاعت مكانة فرعون عنده ، وكسرت شوكته ، وتزعزعت هيمنته ، وتهاوت دولته ، وضعفت قوته ، فالعصا إذا كانت تحملها يد ربانية ، وتتحكم بها نفس شرعية ، لا شيء يستطيع الوقوف أمامها ، حتى لو كان بحرا بأمواجه ، أو صخرا بصلابته ، أو طاغوت بسطوته ، يقول U عن فرعون : } وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ { .
فمناسبة عاشوراء ـ أيها الأخوة ـ تجعل عقلاء المسلمين ، يدركون من أين أتيت أمتهم ، وما ينبغي لهم فعله للنهوض بها من كبوتها ، وللخروج بها من مأزقها ، وما قضية موسى وفرعون ، إلا قاعدة ثابتة ، وقانونا لا يتغير ، فرجوع المسلمين لدينهم ، وتمسكهم بعقيدتهم ، وامتثالهم لأمر خالقهم ، هو السلاح الفعال ، والعدة المطلوبة ، للانتصار على أعدائهم ، من اليهود والنصارى وغيرهم .
وأما ـ أيها الأخوة ـ بقاء المسلمين على حالتهم الراهنة ، ووضعهم المزري الحالي ، لا هم لهم غير شهواتهم ، وتحقيق الأدنى من رغباتهم ، والانسياق خلف من يبرر لهم شبهاتهم ، فلن تقوم لهم قائمة ، ولن تعلو لهم كلمة ، وسيكونون لقمة سائغة ، يتداعى عليها أعداؤهم ، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، بأسهم بينهم ، يقتلهم من يؤمل منه حفظ دمائهم ، ويستضعفهم من يرجى منه نصرهم وحمايتهم ، وصدق الله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها المسلمون :
من سنن الله U الثابتة ، التي نؤمن بها ، ونعتقدها عقيدة لا يشوبها شيء من الشك ، أن الله سبحانه وتعالى ، وعد عباده المؤمنين النصر والنجاة والتمكين ، فقال U من قائل : } وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ { يقول ابن سعدي في تفسيره : أي : أوجبنا ذلك على أنفسنا ، وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ، ووعدناهم به فلا بد من وقوعه .
ويقول أيضا U : } ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ { ، ويقول كذلك : } إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ { أي بعونه وتوفيقه وتسديده .
ويقول U : } إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ { يقول أيضا ابن سعدي في تفسيره : هذا إخبار ووعد وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدافع عنهم كل مكروه ، ويدفع عنهم كل شر - بسبب إيمانهم - من شر الكفار ، وشر وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم .
أيها الأخوة :
هذا ما وعد الله U عباده المؤمنين : } وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { ، فالخلل فينا نحن ـ أحبتي في الله ـ نسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك مغفرة ذنوبنا ، وستر عيوبنا ، وإصلاح أحوالنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غي آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، اللهم اسق عبادك و بهائمك ، وانشر رحمتك على بلدك الميت ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|