وفَتَنَّاكَ
فُتُونا
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أنَّ في
قَصَصِ الأنبياءِ عِبْرَةً وذِكْرَى، وهِي سَبَبٌ مِنْ أسبابِ ثَباتِ القَلْبِ
وزِيادةِ الإيمانِ، كَمَا قال تعالى: ﴿ وَكُلاًّ
نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ
فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى في
كِتابِهِ قِصَّةَ موسى عليه السلامُ، وما فيها مِن وَقَائِعَ وأحداثٍ وعِبَرَ.
ومِمَّا جاءَ فيها، أَمْرُ الفُتُونِ، الذي ذَكَرَه اللهُ بِقَوْلِه: ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾. فَمَا الْمَقْصُودُ بِالفُتُونِ في
الآيَةِ؟
لقد ذَكَرَ
حَبْرُ الأُمَّةِ عبدُ الله بنُ عباسٍ رضي اللهُ عَنْهُما شَيْئًا مِن ذلك،
وذَكَرَ أَنَّه كان عَلَى مَرَاحِلَ:
الأُولى:
عِنْدَما تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ
وجُلَساؤُهُ ما كانَ اللهُ وَعَدَ إبراهيمَ عليه السلامُ أَنْ يَجْعَلَ في
ذُرِّيَتِه أنْبِياءَ ومُلُوكًا، فَأْتَمَرُوا وأَجْمَعُوا أَمْرَهُم عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ رِجالًا مَعَهُم الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ في بَنِي إسرائيلَ، فَلَا
يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إلَّا ذَبَحُوهُ. فَكانُوا يَذْبَحُونَ عامًا،
ويَتْرُكُونَ عامًا، كَيْ لا يَفْنَى بَنُوا إسرائِيلَ فَلا يَجِدُونَ مَنْ
يَخْدِمُهُم. فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهارُونَ في العامِ الذي لا يُذْبَح فِيهِ
الغِلْمانُ، فَلَمَّا كان مِنْ قَابِلَ، حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْه السلامُ،
فَوقَعَ في قَلْبِها الهَمُّ والحُزْنُ، فَدَخَلَ هذا الهَمُّ إلى موسى وهُوَ في
بَطْنِ أُمِّهِ، وهذا مِن الفُتُونِ الْمَذْكُورِ في الآيَةِ.
الثانية:
عِنْدَما خافَتْ عَلَيْه أُمُّه
مِن الذَّبَّاحِينَ، فَوَضَعَتْه في تَابُوتٍ بِوَحْيٍ مِن اللهِ، ثُمَّ أَلْقَتْه
في النَّهْرِ، فانْتَهَى بِهِ الْماءُ إلى الجانِبِ الذي يَسْتَقِي مِنْه جَوارِي
امرأَةُ فِرعَوْنَ، فَلَمَا رَأَيْنَه غُلامًا، عَرَضْنَهُ عَلَى امْرَأَةِ
فِرعَوْنَ فَوَقَعَ في قَلْبِها حُبُّه، وفَرِحَتْ بِهِ، فَجاءَ الذبَّاحُونَ
يُهْرَعُونَ إِلَيْه. وهذا مِن الفُتُونِ الْمَذْكُورِ في الآيةِ. إلَّا أَنَّ
امْرَأَةَ فِرعَوْنَ اسْتَوْهَبَتْهُ مِن زَوْجِها، وقالت: ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ). فقال: قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ أَنْتِ، وأمَّا أنا فَلَا.
الثالثة:
عِنْدَما أَبَى أنْ يَرْضَعَ مِن
الْمُرْضِعاتِ، وكادَ أَنْ يَمُوتَ، فخافُوا عَلَيْه، فقالت أُخْتُه عِندَما
بَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَه؟
فَشَكُّوا في ذلك وقالُوا: ما يُدْرِيكِ؟ وهذا مِنْ الفُتُونِ الْمَذْكُورِ في
الآيةِ. حَيْثُ أَنَّهُم شَكُّوا في أَمْرِ أُخْتِه وكادُوا يَمْنَعونَها مِنْ
أَخْذِه إلى الْمُرْضِعَةِ وهِيَ أُمُّه، ولَكِنَّ اللهَ سَلَّم.
الرابعة:
عِنْدَما فَطَمَتْهُ أُمُّهُ،
فَطَلَبَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مِنْ أُمَّ موسى أَنْ تَبْعَثَ لَها مُوسى،
وأَمَرَتْ خُزَّانَها والْمُرْضِعاتِ وَقَهارِمَتَها بِاسْتِقْبالِهِ اسْتِقْبالًا
يَلِيقُ بِهِ، وقالت: لا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي
اليَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وكَرامَةٍ, فاسْتَقْبَلُوه وانْهالَتْ عَلَيْه النِّحَلُ
والهَدَايا، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ جَعَلَهُ في حِجْرِه،
فَتَناوَلَ مُوسى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ يَمُدُّها إلى الأرضِ، فقال الغُواةُ مِنْ
أعداءِ اللهِ لِفِرْعَوْنَ: ألا تَرَى ما وَعَدَ اللهُ إبراهيمَ نَبِيَّه، إنَّه
زَعَمَ أَنَّه يَرِثُكَ ويَعْلُوكَ ويَصْرَعُكَ، فَأَرْسَلَ إلى الذَّبَّاحِينَ
لِيَذْبَحُوه. وهذا مِن الفُتُونِ الْمَذْكُورِ في الآيَةِ، إلَّا أَنَّ اللهَ
أَنْقَذَه بِشَفاعَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ.
الخامسة:
عِنْدَما قَتَلَ موسى عليه
السلامُ فِرْعَوْنِيًّا كان يَتَشاجَرُ مَعَ إسْرائِيلِيٍّ مِن قَوْمِ مُوسى. جاءَ
رَجُلٌ مِن أَقْصَى الْمَدينةِ يُخْبِرُ موسى بِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَلِمَ
بِأَمْرِهِ وأرْسَلَ مَنْ يَقْتُلُه. فَفَرَّ موسى خائِفًا، وهذا مِن الفُتُونِ الْمَذْكُورِ
في الآيَةِ، قَدْ أنْجاهُ اللهُ مِنْه.
السادسة:
عِنْدَما بَلَّغَ موسى رسالةَ
رَبِّهِ ودَعَا فِرْعَوْنَ إلى عِبادَةِ اللهِ، وَأَراهُ مِنْ الآياتِ والْمُعْجِزاتِ
ما يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رِسالَتِهِ، اتَّهَمَه فِرْعُوْنُ بِالسِّحْرِ، وجَمَعَ
لَه سَحَرَةَ الْمَدائِنِ لِيَغْلِبُوه، فَلَمَّا أَلْقَوا حِبالَهُمْ وعِصِيَّهُم
وَرَأَى مُوسى هَوْلَ ما أَلْقَوْه، أصابَهُ الخَوْفُ مِمَّا رَأَى، وهذا مِنْ
الفُتُونِ الْمَذْكُورِ في الآيَةِ، إلَّا أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ
يُلْقِيَ عَصاه فإذا هِيَ تَلْتَهِمُ جَمِيعَ الحِبالِ والعُصِيِّ أَمامَ الْمَلَأِ
كُلِّهِم، مِمَّا دَعا السَّحَرَةَ إلى الإيمانِ بِرِسالَةِ موسى عليه السلامُ،
والكُفْرِ بِفِرْعَوْنَ وبِما كانُوا عَلَيْه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ
الله: الْمَرْحَلَةُ السابِعةُ مِنْ أَمْرِ الفُتُونِ: لَمَّا أَجْمَعَ فِرْعَوْنُ عَلَى
قَتْلِ موسى وَمَنْ مَعَه، أَمَرَ اللهُ مُوسَى بالخُرُوجِ بِقَوْمِهِ لَيْلاً،
فَعَلِمَ فِرْعَوْنُ فَأَرْسَلَ في المَدَائِنِ حاشِرِينَ، فَلَحِقَ موسى وَمَنْ
مَعَه مُتَوَجِّهِينَ صَوْبَ البَحْرِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِن البَحْرِ وَلَه
قَصِيفٌ، خَوْفًا مِنْ عَصَا موسى، قال أصحابُ موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾. فَلَمَّا دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ، ضَرَبَ
موسى البَحْرَ بِالعَصَا فَانْفَلَقَ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقاً، فَلَمَّا خَرَجَ
مُوسَى وَمَنْ مَعَه، وتَكامَلَ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ داخَلَ البَحْرِ. التَقَى
عَلَيْهِم البَحْرُ بِأَمْرِ اللهِ فَأَغْرَقَهُم جَمِيعًا.
وهذه الْمَرْحَلةُ
يا عِبادَ اللهِ كانت
فِي اليَوْمِ العاشِرِ مِنْ مُحَرَّم، وهِيَ المَرْحَلَةُ العَظيمةُ، التي حَصَلَ
فِيها النَّصْرُ والتَّمْكِينُ لِنَبِيّ اللهِ موسى وأَتْباعِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِن الْمُؤمِنينَ، عَلَى شَرِّ أَهْلِ الأرضِ، وأَعْتَى قُوَّةٍ عَلَى ظَهْرِ
الأرضِ في ذلك الزمانِ، مِمَّا يَبْعَثُ الفَرَحَ والتَّفاؤُلِ في نُفُوسِ الْمُؤمِنينَ،
ويُقَوِّي جانِبَ الثِّقَةِ بِاللهِ في قُلُوبِهِم، فَإِنَّ اللهَ وَعَدَ عِبادَه
الْمُؤمِنين، وَوَعْدُهُ صادِقٌ، وَأَمْرُه نافِذٌ، مَتَى ما قامُوا بِلَوازِمِ
الإيمانِ، وتَوَفَّرَتْ فِيهِم عَوامِلُ النصرُ وأسبابُه، بالنصرِ عَلَى
عَدُوِّهِم والتَّمْكِينِ في الأرضِ. أَمَّا إذا تَخَلَّفُوا عَنْها فَلَا
يَلُومُوا ألا أنفُسَهم وَإنْ كَثُرَ عَدَدُهُم وعَتَادُهُم.
اللهم انصرْ بِنا دينَك
وأعْلِ بِنا كَلِمَتَك واجْعَلنا هُداةً مُهْتَدِين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي
هو عصمةُ أمْرِنا وأصْلِحْ لَنا دنيانا التي فيها معاشُنا وأصلح لنا آخرتنا التي
فيها معادُنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر. اللهم
وفقنا لما يرضيك عنّا في أقوالنا وأعمالنا، وجنبنا ما يسخطك علينا يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين
رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين
وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم
احفظ بلادنا المسلمين من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن
والشرور والآفات، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح
مما كانت، اللهم أصلح حكامها وأهلها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا
واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|