يا أهل العطاء ، المرضى الفقراء
الحمد لله واسع الفضل والإحسان ، الكريم المنان ، الرحيم الرحمن ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، سمت نعمته إلى كل حي ، ووسعت رحمته كل شيء ، ولم تزل سحائب جوده تسح الخيرات كل وقت وأوان .
يسح من الإحسان سحا على الورى
وهوب جواد محسن متفضل
إذا سئل الخيرات أعطى جزيلها
ويدفع مكروه البلا ويزوِّل
له الحمد حمدا طيبا ومباركا
كثيرا فضيلا حاصلا متحصل
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، يعلم ما تخفيه خواطر الجنان ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أي مكان .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والجود والوفاء والإحسان ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، فهو القائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { والقائل : } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها المسلمون :
ظاهرة الفقر ظاهرة خطيرة ، لا يخلوا منها مجتمع من المجتمعات ، ولكنها تحتاج إلى مزيد من العناية والرعاية والاهتمام ، وخاصة أننا في بلاد أنعم الله U عليها بكثير من النعم ، وفي مجتمع وصلت خيراته إلى البعيد والقريب ، وبلغ عطاؤه مشارق الأرض ومغاربها . والفقر ليس عيبا ـ أيها الأخوة ـ إنما هو ابتلاء من الله U لعباده فقرائهم وأغنيائهم ، وهي سنة الله في خلقه ، لحكم يعلمها سبحانه ، ولولا الفقراء لما تميز الأغنياء بعطائهم وبإنفاقهم وبصدقاتهم وبزكاتهم ، الفقراء ـ أيها الأخوة ـ هم ميدان الأغنياء ، والغني الذي لا ينزل في هذا الميدان ، ولا يمارس فيه ما أنعم الله U عليه به ، فإنه يفوت عليه خير كثير ، ويخشى عليه من خطر عظيم ، وعلى سبيل المثال الذي يمنع زكاة ماله ، ويحرم منها من يستحقها ومنهم الفقراء ، الويل له يوم القيامة ، الويل له من عذاب الله ، تتحول أمواله إلى نار يكوى بها في أنحاء جسده ، يقول تعالى : } وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ { الذي لا يعرف الفقراء في زكاة ماله ، هذا جزاؤه ـ نسأل الله السلامة والعافية .
الشاهد ـ أيها الأخوة ـ الفقر ليس عيبا ، ولا منقصة في حق الإنسان ، بل أحيانا يكون خيرا محضا ، كما جاء في الحديث الذى رواه البغوى وغيره (( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقرته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر. ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم . ولو أصححته لأفسده ذلك ، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير )) .
أيها الأخوة :
فوجود الفقراء بيننا ، أمر طبيعي ، ولكنه يعتبر معاناة للفقراء أنفسهم ، لا سيما إذا أضيف إليه مرضا من الأمراض ، أي إذا اجتمعا فقر ومرض ، وهذا ما أردت الحديث عنه في هذا اليوم ، فإذا كان الفقر يعتبر مشكلة عظيمة ، فكيف إذا كان هذا الفقير يعاني من مرض مع فقره ، ومرضه يحتاج لمبالغ باهظة ، وأدوية أثمانها خيالية ، نتيجة عدم جدوى علاجه في المستشفيات الحكومية ، فيضطر إلى الذهاب للمستوصفات الخاصة ، التي بعضها لا هم له إلا استغلال المريض واستنزاف ما في جيبه .
أيها الأخوة :
يحدثني أحدهم ليلة البارحة ، ودمعته على خده ، جاء يبحث عمن يقرضه قرض حسنة ، ليعالج ابنته ، يقول أذهب بها في اليوم على الأقل ثلاث مرات للمستشفى من خلال سيارة الإسعاف ، لأنها تعاني من ألم شديد في جزء من جسمها ، وآخرها قبل قليل ، كشف عليها طبيب عام في قسم الطوارئ ، ثم حولها لمستشفى الصحة النفسية ، يقول : فصارت المريضة في حالة هستيرية تصيح بأعلى صوتها : أنا لست مجنونة ، لماذا التحويل لمستشفى الصحة النفسية ، يقول : فأنا في حيرة من أمري ! ما ذا أفعل ؟ ليس عندي مال لأذهب بها إلى مستشفى خاص ، فابحث لي عن من يقرضني قرض حسنة ، لأذهب بها إلى مستشفى خاص ذكر لي في بلدة مجاورة !
هذه ـ أيها الأخوة ـ حالة وقفت عليها بنفسي ، وما أكثر الحالات التي يعاني أصحابها من مثل هذه الظروف ، اسأل الله أن ينفس كربة كل مسلم.
أيها الأخوة المؤمنون :
فالفقراء بحاجة لوقفة صادقة من إخوانهم الأغنياء ، بحاجة بأن يستشعروا معاناتهم ، ويحسوا بحاجاتهم ، قبل أن تحل بهم عقوبة من الله U ، ففي الحديث يقول النبي e : (( ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا وملكان ينزلان ، فيقول أحدهم : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا )) . فاتقوا الله ـ معشر الأثرياء ـ الإنفاق على مثل هؤلاء ، من أعظم القرب إلى الله تعالى ، } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ { .
معشر الأثرياء ، راجعوا إيمانكم ، لأن التأخر عن الإنفاق ، له علاقة وطيدة بالإيمان ، ولذلك أهل الإيمان هم أكثر الناس إنفاقا ، هم كما وصفهم الله : } يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً { فماذا لهم جزاء لذلك عند الله ؟ قال تعالى : } فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { .
واحذروا ـ معشر الأثرياء ـ فقد ذكر الله لنا في كتابه ، صنفا من الناس ، لنحذر من سلوك سبيلهم ، ومن عاداتهم السيئة ، ومنها عدم الإنفاق ، فقال عن المنافقين : } الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { يقبضون أيديهم عن الإنفاق ، لا يستطيع أحدهم أن يرد يده إلى جيبه ، تعجز يده عن فتح محفظته ، ليخرج مبلغا من المال ليتصدق به .
أتدرون لماذا ؟ لأنهم يخافون الفقر ! ليس عندهم إيمان يدفعهم للإنفاق ! ليس عندهم تصديق جازم بأن ما أنفقوا سوف يخلف عليهم . يقول تبارك وتعالى : } الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ { .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يشفى مرضاهم ، وأن يغنيهم بفضله عمن سواه إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
ومن الأمراض التي تحتاج لوقفة التجار والأثرياء ، بل والناس عامة ، الأمراض المزمنة التي لا يرجى برؤها ، ولا يمكن شفاء أصحابها إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى ، وقد أنعم الله U علينا في هذه البلاد ، ببعض الجهات الخيرية التي تعنى بمثل هذه الأمراض ، وتسعى إلى الاهتمام بهؤلاء المرضى طبيا ونفسيا ، ومن هذه الجهات جمعية الأمير فهد ابن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي ، التي تسد حاجة طائفة كبيرة ممن لديهم فشل كلوي في هذه البلاد المباركة ، وقد صدرت فتوى من سماحة المفتي ، بجواز دفع الزكاة للمرضى الفقراء الذين يتلقون العلاج لدى هذه الجمعية ، فالله .. الله .. أيها الأخوة ، ادعموا الفقراء المرضى من منسوبي هذه الجمعية ، بما تستطيعون وتقدرون عليه ، حتى ولو كان شيئا يسيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن أعظم ما يستطيع أن يقدمه المسلم في مجال الفقراء المرضى ، الوقف الذي لا ينقطع ثوابه ، حتى بعد انتقاله من هذه الدنيا ، يقول النبي e في الحديث الذي رواه مسلم : (( إذا مات ابنُ آدم ، انقطع عملُهُ إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية ، أو علمٍ ينتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له )) فهي والله فرصة . فرصة ـ أيها الأخ ـ أن يكون لك عمل حتى بعد موتك ، حتى وأنت في قبرك بين الأموات ، تكون لك أعمال جارية ، وحسنات غير منقطعة .
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { وفي الحديث الصحيح ، قال e : (( من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشرا )) . فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين ، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|