من الخاسر
الحمد لله الذي له الكمال
والدوام ، والعز الذي لا يرام ، الحي القيوم الذي لا ينام } لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ { واسع الفضل جزيل الهبات ، المتفرد بكمال الذات والصفات ، يدعو
عباده إلى دار السلام .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ،
وبعظيم سلطانه ، كل غني إليه فقير ، وكل جبار إليه كسير ، وكل عسير عليه يسير ،
نحمده على فضله المدرار ، ونعمه العظام .
أسأله U أن يتم علينا نعمه ، وأن
يديم علينا فضله :
تعطف بفضل منك يا فاطر الورى
فأنت ملاذي سيدي
ومعيني
لئن أبعدتني عن حماك خطيئتي
فإن رجائي شافعي
ويقيني
فظني جميل أنني بك واثق
وإن جميل العفو منك
يقيني
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو
فاعفو عنا ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ،
وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، سيد الأنام ، صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ، وسلم تسليما كثيرا .
أما
بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، امتثالا لأمر ربكم القائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده
المتقين .
أيها
الأخوة المؤمنون :
سؤال أتمنى أن يسأله كل واحد منا
نفسه ، وأن يتأمل في إجابته ، وخاصة من عنده بعض المخالفات الدينية ، والتجاوزات
الشرعية ، السؤال هو : من الخاسر عندما يترك أمر الله تعالى ، ومن هو المتضرر
الأول ، عندما يرتكب العبد الذنوب والمعاصي التي تغضب الله U ؟
هذا هو السؤال ـ أيها الأخوة ـ !
اسأل نفسك ـ أخي ـ قل لها : أنا
عندما أخالف أمر الله ، وعندما أعصي الله U ، وعندما ارتكب ما حرم سبحانه ، عندما أتهاون في دين
الله ، وأتمادى بالذنوب وأنهمك بمعاصي الله ، وأشغل نفسي بالملذات والشهوات التي
لا ترضي الله جل جلاله ، من الخاسر ، هل هو أنا أو غيري ؟ هل الخاسر الدين ، أم
خطيب الجامع ، الذي ينبح صوته في كل جمعة ، أم أنا الخاسر في ترك ما يرضي الله ،
وفعل ما نهى عنه ـ جل جلاله ـ .
أيها
الأخوة المؤمنون :
بعض الناس ، بل أكثرهم ، لا يرضى
الخسارة لنفسه بشكل من الأشكال ، حتى ولو كانت ليست خسارة حقيقية ، وعلى سبيل
المثال ؛ تأمل ، إذا خسر أحدهم في تجارته ، تجده يتأثر نفسيا ويتضايق ، وكذلك تأمل
أحدهم ، إذا فشل ابنه في دراسته ، أو إذا طلقت ابنته يتضايق ، أو إذا خفست ـ كما
يقولون ـ أسهمه في السوق ، بل بعضهم ـ وما أكثرهم ـ إذا خسر الفريق الذي يشجعه
وهزم ، تثور ثائرته ، وقد يخيم عليه الحزن فترة طويلة ، ولكن تأمل هذا وذاك ووضعه
بالنسبة للدين ، تجده خسران بنسبة كبيرة ،
ولكنه لا يحس بهذه الخسارة ، تجده مثلا غافلا عن ذكر الله ، تجده متكاسلا عن
الصلاة مع الجماعة وخاصة صلاة الفجر ، تجده مثلا يسمع ويأكل ويشرب ما حرم الله
، تجده حليقا مسبلا ، ولكنه لا يشعر ولا
يحس بخسارته !
أيها
الأخوة المؤمنون :
فحري بالمسلم ، أن يكون عاقلا ،
مدركا لحقيقة أمره ، يقول U : } يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ { هذه الآية في سورة الحجرات ،
نزلت لأن الأعراب ، صاروا يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول r ، فعاتبهم الله مخاطبا رسوله r : } قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ { يقول ابن كثير في تفسيره : فإن
نفع ذلك إنما يعود عليكم .
فإذا تمسكت أخي والتزمت بالدين ،
المستفيد هو أنت ، بعض الناس ـ أيها الأخوة ـ إذا حصل له موقف مع من يسمونهم المطاوعة ، كره الدين ، بعضهم يحلق لحيته
أو يترك الصلاة مع الجماعة أو يترك حضور حلق العلم ، بل بعضهم يترك الصدقة وفعل
الخير ، من أجل موقف مع مطوع ، وقد يكون هذا المطوع مطوعا أمام الناس فقط ، اسأل
الله U أن يسترنا فوق الأرض وتحت
الأرض .
فأنت أخي تعمل لله ، لا عليك من
الناس ، سوف يحاسبك الله لوحدك ، لن يسألك عن ذنوب غيرك إلا إذا كنت سببا لفعلها ،
فعليك أخي بنفسك ، واعلم أن بترك الطاعة ، وفعل المعصية ، الخسران الأول والوحيد
هو أنت لا غيرك ، بالله عليك أخي ، أن تتأمل قول الله تعالى : } وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا
يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
، مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا { . آيات واضحة ، ولكن كما قال تبارك وتعالى : } إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن
العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة
الثانية
الحمد لله على إحسانه ،
والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما
لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها
المسلمون :
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الله U لا تنفعه طاعة المطيع ، ولا تضره معصية العاصي ، ففي الحديث الذي
رواه مسلم ، عن النبي r فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال )) : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا
، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ،
يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل
والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن
تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا
عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا
على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا
عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك
من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص
ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل
البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا
فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) .
أيها
الأخوة المؤمنون :
تبين لنا إذا من هو الخاسر ، وصارت إجابة السؤال واضحة ،
ولكن ما هي نتيجة هذه الخسارة الفادحة ؟
إنها التعاسة الأبدية ، والشقاء الدائم ، يقول تبارك وتعالى: } وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ { ويقول تبارك وتعالى : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى { فأي خسارة ـ أيها الأخوة ـ أعظم
من هذه الخسارة ؟
اسأل الله لي ولكم علما نافعا
، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ،
اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، اللهم إنا نسألك
الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو
عمل برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام
وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين ،
اللهم واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا
واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم
الراحمين . اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور ، وبعمل متقبل مبرور برحمتك يا
أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد
الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا
الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون .
|