ذكرى الدار
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره ، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره ، لا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخره .
أحمده على ما أولى من خير ويسره ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، اطلع على عمل المسيء وستره ، وقبل توبة العاصي فعفا عن ذنبه وغفره .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أوضح به سبيل الهدى ونوره ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرًا .
أما بعد ، أيها المسلمون :
اتقوا الله U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
يقول تبارك وتعالى : } وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ { ففي هذه الآيات ، يثني الله U على أنبيائه المصطفين الأخيار ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أصحاب القوة في الدين ، باهتمامهم بأمر الآخرة ، وعملهم لها ، يقول مجاهد ـ رحمه الله ـ : أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم غيرها .
ويقول مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ : نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها ، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن تذكر الآخرة ، واليقين بيوم القيامة ، لأمر ينبغي للمسلم أن لا يغفل عنه ، وأن يجعله دائما نصب عينيه ، لأن الغفلة عن ذلك اليوم ونسيانه ، طريق الهلاك ، وسبب الانحراف ، فالغافل الناسي لذلك اليوم ، يوغل في المعاصي ، ويستسلم للشهوات ، ويرتكب الكبائر ، ويتعدى على حقوق المسلمين ، بل ويعبد الدنيا ، يقول تبارك وتعالى : } إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ { تأمل أخي المسلم ، نتيجة عدم الإيمان بالآخرة ، قلوبهم منكرة ، ينكرون أن لا إله إلا الله ، ينكرون الواحد الأحد الفرد الصمد ، ويعبدون عددا من الآلهة ، بل ويتعجبون من ذلك ، كما قال تعالى : } أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ { .
فالغفلة عن الآخرة ، ونسيان يوم القيامة ، سبب المصائب ، وطريق الضياع والانحراف ، وله نتائج وخيمة ، يقول تبارك وتعالى : } وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ { أي منحرفون ، فالانحراف عن الطريق المستقيم ، من أسبابه عدم الإيمان بالآخرة ، والكارثة ـ أيها الأخوة ـ أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وينحرفون عن الطريق القويم والصراط المستقيم ، يعملون أعمالا لا يرون بها بأسا ، بل يرونها حسنة ، كما قال تبارك وتعالى : } إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ { يقول ابن كثير في تفسيره : } إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ { أي يكذبون بها ، ويستبعدون وقوعها ، } زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ { أي حسنا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم .
أيها الأخوة المؤمنون :
فحري بالمسلم ، أن لا يغفل عن ذلك اليوم العظيم ، وأن يتذكر يوم القيامة ، عند كل عمل يريد أن يعمله ، وهذه هي الرجولة الحقيقية ، يقول تبارك وتعالى : } في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ ، رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ { هؤلاء الرجال حقيقة ، بوصف الله U لهم ، لأنهم } يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ { لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم ، عن ذكر الله U وتسبيحه ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، يعملون لذلك اليوم العظيم !
نعم ـ أيها الأخوة ـ هؤلاء هم الرجال ولا رجال غيرهم ، ليست الرجولة بكثرة الأموال والأتباع وفتل الشوارب ، وليست الرجولة بالمناصب والمراتب والرواتب وتصدر المجالس ، وليست الرجولة بالفخر بالأحساب والطعن بالأنساب ونظم القوافي ، كما يضن بعض الناس ، الذين تمكنت منهم الغفلة ، ويصدق عليهم قول الله تعالى : } إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً { يحبون هذه الدنيا بحطامها وزخارفها ، ويتركون ذلك اليوم الثقيل العظيم غفلة ـ والعياذ بالله ـ إن هؤلاء كالبهائم ، بل هم أضل كما قال تبارك وتعالى : } وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وتذكروا ذلك اليوم القريب ، فقد قال تعالى : } إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ، وَنَرَاهُ قَرِيباً {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أيها الأخوة المؤمنون :
لقد كان الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم ، ينذرونهم اليوم الآخر ، ويخافون عليهم عذابه ، فقد قال سبحانه لنبيه محمد r : } وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحشَرُوا إِلى رَبِّهِم لَيسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُم يَتَّقُونَ{ ، وقال : } وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ ، إِلى اللهِ مَرجِعُكُم وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ { ، وقال تعالى : } لَقَد أَرسَلنَا نُوحًا إِلى قَومِهِ فَقَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ {، وقال سُبحَانَهُ : } وَإِلى مَديَنَ أَخَاهُم شُعَيبًا قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ مُحِيطٍ { ، وقال عن هُودٍ عليه السلامُ : } وَاذكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَومَهُ بِالأَحقَافِ وَقَد خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ{ .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنفسكم : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { .
ألا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وارض اللهم عن صحابته الغرر ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن بقية الصحابة أجمعين ، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، واحمي حوزة الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك ، واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، نافعا غير ضار ، عاجلا غير آجل ، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، اللهم انشر رحمتك على بلدك الميت .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .
|