لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ
وَاَلْعَشْرُ وَزَكَاْةُ اَلْفِطْرِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الْبَشِيرُ النَّذِيرُ ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ ، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا ﴾ ، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ، جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ :
الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ ، وَوَصَفَ بِهَا أَفْضَلَ شَهْرٍ يَمُرُّ بِالْمُؤْمِنِ فِي حَيَاتِهِ ، أَوْشَكَتْ عَلَى الِانْتِهَاءِ ، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ ، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي تَفْسِيرِهِ : وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ ؛ أَيْ: قَلِيلَةٌ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ .
لَمْ يَتَبَقَّ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ إِلَّا بِضْعَةُ أَيَّامٍ ، فَالْيَوْمُ هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَإِنْ مَضَى مِنْ رَمَضَانَ أَكْثَرُهُ ، فَقَدْ بَقِيَ أَفْضَلُهُ ، فَعَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ ؛ لَيَالِيهَا لَيَالٍ فَاضِلَةٌ ، وَمِنْ بَيْنِهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ ، خَصَّهَا اللهُ بِصِفَاتٍ وَمُمَيِّزَاتٍ نَادِرَةٍ ، مِنْهَا - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - وَصَفَهَا اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ ، فَقَالَ : ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ ، أَيِ : الْقُرْآنَ ، وَاللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ : هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ ، هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، وَتَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَمِنْ بَيْنَهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ، فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى " .
وَمِنْ بَرَكَةِ الْعَشْرِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ : مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَجَزِيلُ الْأَجْرِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
فَهَذِهِ الْأَيَّامُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ ، وَاسْتِغْلَالُهَا ثَابِتٌ عَنْ سَيِّدِ الْأَنَامِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ " .
فَالِاجْتِهَادُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَمْرٌ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ، اقْتِدَاءً بِنَبِيِّنَا ، وَاسْتِغْلَالًا لِمَا تَبَقَّى مِنْ شَهْرِنَا ، الِاسْتِعْدَادُ الْكَامِلُ ، وَالْحَذَرُ مِنَ التَّفْرِيطِ ، فَالْأَيَّامُ ثَمِينَةٌ ، وَسَوْفَ تَنْقَضِي كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ بِسُرْعَةٍ ، وَمَنْ يَدْرِي - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - فَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا الشَّهْرُ ، هُوَ آخِرُ شَهْرٍ يَصُومُهُ بَعْضُنَا ، بَلْ رُبَّمَا يُدْرِكُ بَعْضَنَا الْأَجَلُ ، قَبْلَ إِتْمَامِهِ !
فَكَمْ مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ عَاشَ دَهْـرًا إِلَى دَهْـــرِ
وَكَمْ مِنْ فَـــــــــــــــــتًى يُمْسِي وَيُصْبِحُ آمِنًا
وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْــــوَ لا يَدْرِي
فَاللهَ ... اللهَ فِي مُضَاعَفَةِ الْجُهُودِ ، وَبَذْلِ الطَّاقَاتِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامٍ وَلَيَالٍ مُبَارَكَةٍ ، وَالْحَذَرَ مِنَ التَّفْرِيطِ أَوِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ ، وإنَّمَاْ اَلْأَعْمَاْلُ بِاَلْخَوَاْتِيْمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
وَفِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ ؛شَرَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، تَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الْعِيدِ ، عَلَى الرَّجُلِ وَكُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ مَؤُونَتُهُ ، صَغِيرًا كَانَ أَمْ كَبِيرًا . مِنْ غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ ، فَاحْرِصُوا -رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي طُهْرَةِ صِيَامِكُمْ بِإِخْرَاجِ الْجَيِّدِ مِنَ الطَّعَامِ .
أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَأَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ ، فَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعْتِقَ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ ، وَرِقَابَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا ، اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ وَلَا خَاسِرِينَ ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ المَقْبُولِينَ الْفَائِزِين . اللَّهُمَّ إِنَا نَسْأَلُكَ نَصْرَ الإِسْلَامِ وَعِزَّ المُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ احْمِ حَوْزَةَ الدِّينِ ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِين . اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُورِ المُسْلِمِين لِهُدَاكَ ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمْ فِي رِضَاكَ ، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ وَأَبْعِدْ عَنْهُمْ بِطَانَةَ السُّوءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ اللَّهُمَّ اشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ ، وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا لَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِين . اللَّهُمَّ إِنَّ لِلصَّائِمِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً ، فَاللَّهُمَّ إِنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ ذُنُوبَنَا ، وَتَسْتُرَ عُيُوبَنَا ، وَتَهْدِيَ قُلُوبَنَا ، وَتَشْفِيَ مَرْضَانَا ، وَتَرْحَمَ مَوْتَانَا ، وَتَسُدَّ دُيُونَنَا ، وَتُعَافِيَ مَنِ ابْتَلَيْتَهُ مِنَّا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ .
عِبَادَ اللهِ : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فَاذْكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .