آخِرُ جُمْعَةٍ مِنْ رَمَضان
إِنَّ الحَمدَ
للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ
فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله:
اتقوا الله تعالى، وراقبُوه، واعلموا أَنَّ الدنيا مَتاعٌ زائِل، لا تَدُومُ
لأحَدِ كائِنا مَنْ كان. وأن عُمُرَ الإنسانِ فيها قصير، نِهايتُه الموتُ ثُمّ
الحساب، ثم الشَّقاءُ أو السعادة. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( مالِي ولِلدُّنيا، ما أَنا إلا كَراكِبٍ اسْتَظَلَّ تحتَ
شجرةٍ ثُم راحَ وتَرَكَها ). وقال لِعبد اللهِ بنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما: (
كُنْ في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابِرُ سبيل ).
فكان عبد الله بعد ذلك يقول: " إذا أصبَحْتَ فلا
تنتظر الْمَساءَ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصَّباح ".
عباد الله: الْمؤمنُ
يفرحُ بِقُدومِ رمضان، ويحزنُ لِفِراقِه، وهذا أمرٌ طَبيعي. بَلْ إن
الكلامَ عن ذلك يَتَكَرَّرُ كثيرا. والذي ينبغي تَذَكُّرُهُ دائماً، هُوَ أَن
مُرُورَ شهرِ رمضانَ بِهذه السرعة، يُذَكِّرُنا بأنَّ الزَّمَنَ لا يَتَوَقَّف،
وأن مُجَردَ التَّباكِي على ذهابِ رمضانَ لا يُفِيدُ صاحبَه، ما لَمْ يَكُنْ ذلك
مُحَفِّزاً له على استغلالِ الزمان. قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: " ابنَ آدم: إنما أنتَ أيام، كُلَّما ذهبَ يومٌ، ذهَبَ
بَعْضُك ". هذا هو الشعورُ العظيمُ الذي يَنبَغِي أن يُوجَدَ في
قلوبِنا، في رمضانَ وغيرِه. فالعُمرُ قَصِيرٌ يا
عبادَ الله، فلا تُقَصِّرُوه بالغفلة، ولا تُقَصِّروه في الانشغالِ
بالدنيا، فإن الانشغالَ بها، إنما هو انشغالٌ بما لا يَجْنِي مِنْهُ العبدُ إلا
الحسرةَ والخسارةَ. ويَكْفِي أَنَّ أكثرَ وأشدَّ ما يُشْغِلُ العبدَ في دنياهُ، المالُ
والبَنُون، ومع ذلك قال الله تعالى وهو أصدقُ القائلين: ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ). أي: أَن
الإقبالَ على اللهِ والتَفَرُّغَ لِعبادتِه وجَمعَ الحسنات، خيرٌ لكم مِن
اشتغالِكم بِهِم والجَمْعِ لهم، والشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عليهِم. فإن الشفقةَ
عليهِم مَطْلُوبَةٌ، والقيامَ بِشُؤُونِهِم مَطْلوب، ولكن لا يجوز أن يكونَ
شاغِلًا عَنْ الأهمِّ، ألا وهو الباقياتُ الصالحات.
وكذلكَ
فإنَّ مُجَرَّدَ التَبَاكِي على ذهابِ رمضانَ لا يُفِيدُ صاحبَه، إذا
كان مُتهاونًا، لا يُبالِي أَكانَ مِن الْمقبولِين أمْ لا، وهل فاز بِمغفرةِ
الذنوبِ أم لا. لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ
انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ) . أيْ: ذَلَّ وخابَ وخَسِرَ، وهذا
دعاءٌ عليه بالذُّلِّ والهَوان، لأن اللهَ تعالى قد يَسَّرَ له جميعَ فُرَصِ الْمَغفِرةِ،
وفَتَحَ له أبوابَ الخيرِ ويَسَّرَها. وَالفُرَصُ تُلاحِقُهُ مِنْ أوَّلِ أيامِ
رمضانَ ولَيالِيه، إلى أن يُرى هِلالُ العيد.
فالشَّخْصُ
الذي يُدْرِكُهُ رمضانُ مع هذه الفُرَصِ كُلِّها ثم يَنْسلِخُ ولَمْ
يُغْفَرْ له، على خَطَرٍ عظيم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالخَيْبَةِ
والخسارة. فاحْذَرْ أيها الْمسلمُ من التَهاوُنِ،
حتى ولو كنتَ في آخر أيامِ الشهر، فإن الأعمالَ بالخَواتِيم. حتى ولو
كان الْمُتَبَقِّي من الشهرِ قليلاً، فلا تَحْقِرَنَّ من الْمعروف شيئاً، لأن مِنْ
أسماءِ اللهِ تعالى: ( الشاكرُ، والشكور )،
أي: أنه يُعْطِي لِعبدِه فَوْقَ ما يَسْتَحِق. فَيَشْكُرُ اليسيرَ ويُعْطِي
الكثير. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما، في تفسيرِ قوله تعالى: ( إنه غَفورٌ شَكُور ) ، أي: " يَغْفِرُ العظيمَ مِن ذُنُوبِهِم، ويَشْكُرُ اليسيرَ مِن
أعمالِهم ".
أَيُّها الْمُسْلِمُونَ:
قَدْ تَكُونُ جُمْعَتُكُمْ هذه آخِرَ جُمُعَةٍ مِن رَمَضانَ، فاخْتِمُوا
شَهْرَكُمْ وَاجْتِهادَكُمْ بِعَمَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُهِمَّيْنِ، ألا وَهُمَا: الاستغفارُ، وصدقةُ الفِطر. كَتَبَ عُمرُ بنُ
عبدالعزيزِ رحمه الله إلى الأمصار، يأمُرُهُم " بِخَتْمِ
رمضانَ بالاستغفارِ وصدقةِ الفِطر ".
أما
الاستغفار: فَلِأَنَّ العبدَ لا يسْلَمُ مِنَ الذُّنُوبِ والتَّقْصِيرِ،
فَيَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ التي ارْتَكَبَها، ومِنْ تَقصِيرِه في أداءِ هذا
الرُّكْنِ العَظيم، ألَا وَهُوَ صِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ:
والعَمَلُ الثَّانِي الذي نَخْتِمُ بِهِ
شَهْرَنَا: صَدَقَةُ الفِطْرِ، فَقَدْ فَرَضَها النبيُّ صلى اللهُ
عَليه وسلم صاعًا مِنْ طَعامٍ، على الصغيرِ والكبيرِ والذكر والأنثى والحُرِّ
والعبد من المسلمين. وقد شرعها الله تعالى وأمر
بها لِحِكَمٍ كثيرة:
فهي: عِبادَةٌ فَرَضَها اللهُ تعالى
لِتَسُدَّ الخَلَلَ الذي حَصَلَ مِنَ الصائِم، وكذلك هي طُهرَةٌ لَه مِنْ
اللَّغْوِ والرَّفَثِ. وَطُعْمَةٌ لِلْمَساكِينِ. وَفِيها: إِظْهارُ التَّراحُمِ
والتَّوَاصُلِ بَيْنِ الْمسلمين، فَقِيرِهمِ وَغَنيِّهِم، فَهِيَ صُورَةٌ
ظَاهِرَةٌ، وَمِثالٌ حَيُّ لِلتَّكافُلِ الاِجْتِماعِي.
ثُمَّ
اعْلَمُوا يا عِبادَ الله: أنه لَمْ يَثْبُتْ عَن النبيِّ صلى اللهُ
عليه وسلم حديثٌ في فَضْلِ آخِرِ جُمُعةٍ مِنْ رَمَضانَ، وَلَا في قِيامِ
لَيْلَتِها.
وَلَا يَجُوزُ
لِلْمسلمِ أَنْ يَخُصَّ زَمناً مُعَيّناً بِالفَضْلِ إلَّا بِدليلٍ مِنْ كِتابِ
اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم. لِقَولِه عليه الصلاة
والسلام: ( مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيسَ عليه أَمْرُنا
فهو رَدّ ).
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصيامَ والقِيامَ، وَوَفِّقْنا
فِيمَا بَقِيَ مِن اللَّيالِي والأيَّامِ، وتجاوزْ عن التقصيرِ والآثامِ يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ولا تردنا
خائبين، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من نارك والفوز بجناتك، اللهم
أعتق رقابنا من النار يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة
نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل
لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظ لبلادنا عقيدتها وسيادتها
واستقرارها وأمنها، اللهم احفظها من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم وفق ولاة
أمرنا لما يرضيك واجعلهم أنصاراً لدينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة في ختام شهر رمضان:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=167
|