إِخْبارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَيلةِ القدْرِ وذَمُّ الخُصُومةِ والجَدَل
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى, وآمنوا باللهِ ورسولِه, واعلموا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أوْصافِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: حِرْصَهُ على المؤمنين وعلى دلالَتِهِم على الخيرِ وأسبابِ نجاتِهِم وفَلاحِهِم, خُصوصاً في المُناسباتِ التي تَتَطَلَّبٌ ذلك. ومِما وَرَدَ في هذا الباب, ما رواه البخاريُّ عَنْ عُبَاَدَةَ بنِ الصامِتِ رضي الله عنه, أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ( خرَجَ يُخُبِرُ بِلَيلَةِ القَدْرِ, فَتَلاحَى رجُلانِ مِنَ المسلمين, فقال: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُم بِلَيلةِ القَدْرِ, وإِنه تَلاحَى فُلانٌ وفُلان, فَرُفِعَت, وعَسى أنْ يكونَ خيراً لكم. التَمِسُوها في السَّبْعِ والتسع والخمس ). وفي روايةٍ لِمُسلِم عن أبي سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه,: ( فجاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ, مَعَهُما الشيطان, فَنَسيتُها, فالتَمِسُوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامِسة ). وهذا يَدُلُّ على حِرْصِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم, على تعيينِ لَيلةِ القَدْرِ لِأصحابِهِ ذلكَ الوقت, لِيُدْرِكوها ويُدْرِكوا فَضْلَها.
وفي هذا فوائدُ مُهِمَّة:
أولها: أَنَّ لَيلةَ القَدْرِ تَكونُ في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضان.
ومن الفوائِد أيضاً: أن ليلةَ القدْرِ وإنْ كانت في العشرِ الأواخِرِ, لكِنَّها غَيْرُ مَعْلومَةٍ على وجهِ التعيين, وإنما تَتَنَقَّلُ في العشرِ في لَيالي الوِتْرِ كما هُوَ ظاهِرُ الأدلة.
ومن الفوائِدِ أيضاً: عِظَمُ شأْنِ هذِهِ الليلة, لِحِرْصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على إخبارِ الصحابةِ بها. وقد دَلَّت الأَدِلّةُ من القرآن والسنة على ذلك: فَهِيَ الليلةُ التي نَزَلَ فيها القرآن. وهِيَ الليلةُ التي يُقَدِّرُ اللهُ فيها مقاديرُ السَّنَة لِقولِهِ تعالى: ﴿ فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم ﴾. وَلِعِظَمِ شأْنِها أَنْزَلَ اللهُ فيها سُورَةً كامِلة. وكذلكَ العِبادةُ فيها خَيْرٌ مِنَ العِبادةِ ألفَ شهرٍ فيما سِواها. والملائكةُ فيها أكثَرُ مِنَ الحَصَى. وهِيَ أيضاً سَلامٌ على المؤمنين الذين يَعْبُدونَ الله فيها: لِكَثرَةِ مَنْ يُسَلِّم عليهِم من الملائكَة, ولِكَثرَةِ السالمينَ فيها مِنَ الشُّرورِ والآفاتِ وعذابِ النار. وَتَبْدأُ لَيْلَةُ القَدْرِ مِنْ غُروبِ الشَّمْسِ, وَيَسْتَمِرُّ فَضْلُها إلى طُلوعِ الفجر.
وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِد: ذَمُّ الخُصومَةِ والتَنازُعِ وكَثْرَةِ الجَدالِ بِلا فائدة, وأَنَّ ذلِكَ مِن أسبابِ العُقوبةِ, وحِرْمانِ الخيرِ, فإنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أُنْسِيَ لَيلَةَ القَدْرِ بِسَبَبِ المُلاحاةِ التي جَرَتْ بينَ الرَجُلين. وهذا يَجْعَلُنا نَحْذَرُ غايَةَ الحَذَرِ مِنْ ذلِك, لِأَنَّ كَثْرَةَ المُخاصَمَةِ والجَدَلِ, تُوغِرُ الصُّدُورَ, وتَنْشُرُ الأَحْقادَ, وَيَحْصُلُ بِسَبَبِها الهَجْرُ والقطيعة. وتُتَّهَمُ بِسَبَبِها النَّوايا, وَيَحْصُلُ بِسَبَبِها الإتِّهامُ بالباطِل. خُصوصاً مَنْ كانَ هذا دَيدَنُه, فإِنَّهُ في الغالِب: يُقَدِّمُ لِسانَهُ عَلى عَقْلِه, وطَيْشَهُ عَلى عِلْمِهِ وحِلْمِه, وظُلْمَهُ على عَدْلِهِ وإِنْصافِه.
وأَعْظَمُ الخصوماتِ: الخُصومَةُ في الدِّين, وَكَثْرَةُ الجِدالِ بِغيرِ فائدَة, ومُتابَعَةُ أهْلِ الجَدَل في ذلك, خُصوصاً في هذا الزمان الذي كَثُرَ فيه المُتَكَلِّمون باسمِ الدينِ والدعوة, مَعَ هذا الإنفتاحِ الفضائيِّ الذي نعيشُه, عَبْرَ القَنَواتِ الفضائية, أو شَبَكاتِ التَواصلِ الإجتماعي, حتى قَسَتِ القُلوبُ, وكَثُرَتِ الحَيْرَةُ لَدَى الناسِ, فأَصْبَحوا لا يُمَيِّزون بينَ العالِم وغَيرِه, وتَنَوَّعَتِ المشارِبُ, وعَزَفَ كثيرٌ من الناسِ بِسَبَبِها عن مَصادِرِ التَلَقِّي الأَصْلِيَةِ الأَصِيلَة - الكِتابُ والسُّنَةُ وما كانَ عليهِ سلفُ الأمة - وهذا مِنْ أخْطَرِ ما يكون على دينِ المَرْءِ, قال عُمَرُ بنُ عبدالعزيزِ رحمه الله: " مَنْ جَعَلَ دِينَهُ عُرْضَةً لِلخُصوماتِ أَكْثَرَ التَنَقُّل ". أي: لَمْ يَسْتَقِرَّ على حالٍ, بَلْ كُلُّ يومٍ لهُ مَذْهُبٌ ورأيٌ, نَعوذُ بالله مِنْ هذِهِ الحال.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
أيها المسلمون: وِمِنَ الفوائِدِ المُسْتَنْبَطَةِ مِن الحَديثِ الذي سمِعْتُموه: أَنَّ المَكانَ الذي يَحْضُرُهُ الشيطانُ, تُرْفَعُ مِنْهُ البَرَكةُ والخير, لِقولِه: ( فجاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ, مَعَهُما الشيطان ), فإذا كان هذا الكلامُ قَدْ قِيلَ في خُصُومَةٍ جاءَ الشيطانُ فيها, فَكَيفَ بالأماكِنِ التي تَشِيعُ فيها البِدَعُ, أَوْ أَماكِنِ المُنْكَراتِ والمَعاصي التي لا يَغِيبُ عَنها الشيطانُ أصلاً, وهي أماكِنُ الكَسْبِ الحَرام. والأماكِنِ التي لا يُسْمَعُ فيها إلا السَبُّ واللعنُ, وأصواتُ المَعازِفِ. فَهِيَ أَحَقُّ بِمِحْقِ البَرَكَةِ ورَفْعِ الخيرِ ولا حولَ ولا قُوة إلا بالله العلي العظيم.
فاتقوا الله أيُّها المسلمون, واحرِصوا على مجالِسِ الخيرِ التي يُحِبُّها اللهُ, وتَحُفُّها الملائِكة, وتَغْشاها الرَّحْمَةُ. واستَغِلُّوا أوقاتَكُم فيما يُقَرِّبُكُم إلى الله, فإنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ عَلَيكُم فإنها تُبَعِّدُكُم عَنِ الدُّنيا وتُقَرِّبُكُم إلى المَوْتِ والآخِرة.
اللهم استعملنا في طاعتك, وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم كما بلغتنا رمضان فارزقنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا ، اللهم وفقنا فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير والآثام، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم أعذهم من شر الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالرافضة والبعث العلويين الذين آذوا إخواننا في بلاد الشام، وعليك باليهود الذين استحلوا بلادنا ودماء إخواننا في فلسطين، وعليك بالوثنيين البوذيين الذين استحلوا دماء وأعراض إخواننا في بورما، اللهم عليك بهم, فإنهم لا يعجزونك. اللهم اشدد وطأتك عليهم واطمس على أموالهم واشد على قلوبهم وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم وسلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها يا رب العالمين، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-132.html
|