الرحمة بين الخلق
وآثارها، مع التذكير بحرمة الاتجار بالبشر
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها
المسلمون: اتقوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أَنَّ مِن الصِّفاتِ الحَمِيدَةِ العَظِيمَةِ التي مَدَحَ اللهُ أَهْلَها،
وحَثَّ عَلَيها، وأَمَرَ بِها
عِبادَه وَوَعَدَ عليها الثَّوابَ الجَزِيل: صِفَةَ الرَّحْمَة،
قال تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَسُولً اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُّفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُم )، وقال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرحمن، ارْحَمُوا
مَنْ في الأَرضِ يَرْحَمُكُم مَنْ في السماءِ ). وبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّ مِن عَلامَةِ شقاءِ العَبْدِ وهلاكِه: نَزْعَ الرَّحْمَةِ مِن قَلْبِهِ
فقال: ( لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقِيّ ). ولِعِظَمِ هذِه الصِّفَةِ،
سَمَّى اللهُ نَفْسهُ – الرَّحْمن والرحَّيم – واتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ الواسِعَةِ
التي وَسِعَت كُلَّ شيء، قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( جَعَلَ اللهُ الرحمَةَ في مِائَةِ جُزْءٍ،
فامْسَكَ عِنْدَه تِسْعَةً وتِسعِين جُزْءًا،
وأَنْزَلَ في الأرضِ جُزْءًا واحِداً،
فَمِن ذلك الجُزْءِ يَتَراحَمُ الخَلْقُ،
حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن وَلَدِها،
خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَه ). إِلَّا أَنَّ هذِه الرَّحْمَةَ لَيْسَ لِلكافِرِ مِنْها
نَصِيبٌ في الآخِرَةِ، وإِنْ كان له
نَصِيبٌ مِنْها في الدُّنيا، قال تعالى: (
والذين كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ولِقائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتي ). وهذه
الرَّحْمَةُ يا عِبادَ الله، يَجِبُ أَنْ
تَكُونَ للمُؤْمِنين فيما بَيْنَهُم،
وأَمَّا الكُفَّارُ فَلا بُدَّ مِن إظْهارِ العِزَّةِ أَمامَهُم،
وعَدَمِ إظْهارِ المَهانةِ، كما قال
تعالى: ( أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم ), وقال تعالى: (
أَذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلى الكافِرِين ). ولا يَعْنِي ذلك أَنْ
يُظْلَمَ الكافِرُ، أَوْ يُؤْذَى
بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ
مُبَرِّرٍ شَرْعِيّ، فَإِنَّ
تَحْرِيمَ الأَذِيَّةِ عامٌّ حتَّى مَع الكُفارِ المُسالِمِين الذي لَمْ
يُقاتِلُونا في الدِّين ويُظاهِرُوا عَلَى عَدَاوَتِنا،
وقَدْ يَتَطَلَّبُ الأَمْرُ إلى أَنْ نُحْسِنَ إلى الكافِر،
ولكن لَيْسَ لَه مِن الحُقُوقِ ما لِلمُسلِمِين.
عِبادَ الله: إنَّ لِلرحمَةِ التي تكون في
القُلُوبِ آثاراً تَظْهَرُ على الأَعْمالِ، مِنها:
أَنَّها تَجْعَلُ المؤمنينَ كالجَسَدِ الواحِد، كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهِم وتَراحُمِهِم
وتَعاطُفِهِم، مَثَلُ
الجَسَدِ إذا اشتَكى مِنهُ عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر
).
وَمِنْها: صِلَةُ الرَّحِمِ،
وهِي مِن أَعْظَمِ الحُقُوق، قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى
إِذا فَرَغَ مِن خَلْقِهِ، قالت
الرَّحِم: هذا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِن القَطِيعَة, قال: نعم،
أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ،
وأَقْطَعَ مَن قَطَعَك؟ قالت: بَلَى يارَبّ،
قالَ: فَهُوَ لَكِ ).
ومِنْ آثارِ الرَحْمَةِ بَيْن العِبادِ:
القِيامُ بالسِّعايَةِ عَلَى الأَرامِلِ واليَتامَى والمَساكِين،
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينِ،
كالمُجاهِدِ في سبيلِ اللهِ، وكَقائِمِ
اللَّيلِ الصَّائِمِ النَّهار ). وقال أَيضًا: ( كافِلُ اليَتِيمِ لَهُ أَو
لِغَيْرِهِ، أَنا وهُو
كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ )، وأشارَ الرَّاوِي
بِالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى.
وَمِنْ آثارِ الرَّحْمَةِ: تَرْكُ
الأَذِيَّةِ والتَّعْذِيبِ لِلناسِ بِلا دَلِيلٍ أَو بُرْهانٍ مِن اللهِ ورَسُولِه،
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ يُعَذِبُ الذين يُعَذِبُونَ
الناس ). وهذا الجَزاءُ عامٌّ لِكُلِّ مَن لَه سُلْطَةٌ فَفَرَضَ نَوْعاً لِلتَعْذِيبِ
لِعِبادِ اللهِ بِلا دَلِيل، ويَشْمَلُ
حَتَّى الأَبَ في تَعامُلِهِ مَعَ أَولادِه،
والمُعُلِّمَ والمُؤَدِّبَ في المَدْرَسةِ،
والزَّوْجَ مَعَ زَوجَتِه، وحَتَّى
الكَفِيلَ في تَعامُلِهِ مَعَ العَمالَةِ التي تَحْتَ كَفالَتِه، بل
ذَكَرَ العُلَماءُ بِأَنَّ مِن صُوَرِ التَّعْذِيبِ: الإِتِّجَارَ بالبَشَرِ
بِجَمِيعِ صُوَرِهِ، فإِنَّ
الإِتِّجَارَ بِالبَشَرِ لَيْسَ خاصًّا بِبَيْعِ وشِراءِ البَشَر،
أَو الإِتِّجارِ بِالأَشْخاصِ بِغَرَضِ الجِنْسِ،
أَو سَلْبِ الأعْضاءِ الجَسَدِيَّةِ وبَيْعِها،
وإِنْ كانَت هذِهِ أَساسُها، ولكن هذا
العَمَلَ المَشِينَ لَهُ صُورٌ أُخْرَى يغْفَلُ عَنْها كَثيرٌ مِن الناسِ والتي
مِنْها: سَلْبُ حُقُوقِ العُمَّالِ، أو
المُتاجرَةُ عن طريق استِقْدامِ الخادِماتِ وتأْجِيرِهِنّ بِمبالِغَ كَبيرةٍ
وإِعْطائِهِن القَلِيلَ مِن الأجْرَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ،
أو تَكْلِيفُ العُمّالِ مِن العَمَلِ ما لا يُطيقُون مَعَ تَهْدِيدِهِم عِنْدَ
التَقْصيرِ بَقَطْعِ الأُجْرَةِ أَو بَعْضِها،
أو اسْتِقْدامُ العُمَّالِ لِمُؤَسَّساتٍ وَهْمِيَّة أو مَصانِعَ غيْرَ مَوجُودَةٍ
على الواقِع، ومِن ثَمَّ
تَسْرِيحُهُم في الشَّوارِع مَع التَرَصُّدِ لَهُم كُلَّ شَهْرٍ ومُقاسَمَتُهُم
أُجْرَتَهُم وتَعَبَهُم، وقَدْ
يَمْنَعُهُم مِن السَّفَرِ أَو تَجْدِيدِ الإقامَةِ إلا بِمُقابِلٍ،
وهذا ظُلْمٌ وعُدوانٌ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ
الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ
السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى
وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير،
مَا يَفْتَحِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:-
عِبادَ الله: ومِن آثارِ الرَّحْمَة بَيْنَ
الخَلْقِ: رَحْمَةُ البَهائِمِ وإِنْقاذُها، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: ( بَيْنَما كَلْبٌ يَطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كادُ يَقْتُلُه العَطَشُ، إِذْ
رَأَتْه بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْه،
فَغُفِرَ لَها بِه ).
ومِن آثارِ الرَّحْمَةِ: رَحْمَةُ
الصِّغارِ وتَقْبِيلُهُم، وإِظْهارُ العَطْفِ والشَّفَقَةِ، عَن عائِشَةَ رضي
اللهُ عنها قالت: جاءَ أَعْرابِيٌّ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:
أَتُقَبِّلُونَ صِبْيانَكُم؟ قال: ( نَعَم ) ، فقال: واللهِ ما نُقَبِّلُهُم، فقال
صلى الله عليه وسلم: ( أَوَ أَمْلِكُ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَة
).
والآثارُ الحَمِيدَةُ العَظِيمَةُ في شَأْنِ
الرَّحْمَةِ كَثِيرَةٌ لا تُحْصَى إلا بِكَلَفَةٍ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنا مِن عِبادِه الرُّحماءِ، وأَن
يُدْخِلَنا جَمِيعاً في رَحْمَتِه، اللهم إنا نسألك رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج
بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها مرضانا، وترحم بها موتانا يا أرحم الراحمين.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين
يا رب العالمين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من
سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم انصر المجاهدين في
سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان
المعتدين، اللهم انصرها على من يكيد لها في داخلها وخارجها، وأخرجها من الفتن
والشرور، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، اللهم أصلح
أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من أعدائهم يا
قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|