الأعمال التي يجري ثوابها بعد الموت وفضل المرابطة في سبيل الله
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعلَمُوا أن اللهَ سبحانَه قد فَتَحَ لِعِبادِهِ المؤمنين أبواباً من البِرِّ والخيرِ والإحسان، يقومون بها في هذه الحياة، ويجري عليهِم ثوابُها بعد موتِهِم. بينَما أَهْلُ القُبُورِ قد انْقَطَعَت أعمالُهُم، وَتَوَقَّفُ سَيْرُهُم إلى اللهِ والدارِ الآخرة, ليسَ لَهُم سِوَى ما قَدَّمُوا منَ الأعمالِ التي سَيُحاسَبُونَ عنها, ويُجازَونَ عليها. إلا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ للقِيام بأعمالٍ صالِحةٍ يَجْري عليه ثوابُها وَهُوَ في قبرِه, مَعَ العلمِ أنه قد انتَقَلَ مِنْ دارِ العَمَل, إلا أَنَّ حسناتِه لم تَتَوَقّف, وأَجْرَهُ لَمْ يَنْقَطِع, ودَرَجاته لَمْ تَزَل في زيادة. فَيَا لَها مِنْ كرامَة, ويا لَهُ مِنْ فَضْلٍ عَظيمٍ, قد غَفَلَ عنه أكثرُ الناسِ, بِسَبَبِ إيثارِ الدنيا الفانيةِ, على الآخرةِ الباقية, ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ). وقد وَرَدَ في نصوصِ الكتابِ والسُّنّة ما يَدُلُّ على أنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يموتُ ويَبْقى لهُ بَعْضُ أعمالِه وحسناتِه, تَجْري عليهِ في قبرِه, ولا يَنْقَطَعُ ثوابُها, قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ), والمُرادُ بقولِه: ( وآثارَهم ): أي ما قَدَّمُوه مِنْ عَمَلٍ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعدَ المَوْتِ, مِن خيرٍ أو شر.
ومِنْ ذلك قَوْلُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إذا ماتَ ابنُ آدمَ, انقطعَ عملُه إلا مِن ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ, أو علمٍ يُنْتَفع به, أو ولدٍ صالحٍ يدعو له ) رواه مسلم. وقال أيضاً: ( إن مِمَّا يَلْحَقُ المؤمنَ مِن عَمَلِه وحسناتِه بعد مَوْتِه: علماً نَشَره, أو ولداً صالحاً تَرَكَه, أو مِصْحَفاً ورَّثَه, أو مسجداً بناه, أو بيتاً لابنِ السبيلِ بناه, أو نهراً أجراه, أو صدقةً أخرجها مِن مالِه فِي صِحَّتِه وحياته, تَلْحَقُه مِن بعدِ مَمَاتِه ). فاحرص يا عبدَالله على أن يكونَ لك من هذِه الأعمالِ وما شابَهَها حَظٌّ ونَصيبٌ مادُمْتَ في دارِ الإمهال، وبادِرْ إليها قَبْلَ أنْ يَفْجأَكَ الموتُ, ويَنْقَطِعَ عَمَلُك.
وكَمَا أَنَّ هذه الأعمالَ يَبْقَى أَثَرُها بعد موتِ العبد, فإن في مُقابِلِ ذلكَ أعمالاً سيئةً يَبقَى أثَرُها وَوِزْرُها على الإنسانِ بعدَ مَوْتِهِ والعياذ بالله. قال تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ). أي أَنَّ الدعاةَ إلى الباطِلِ في الدنيا سَوْفَ يَحْمِلُون آثامَهُم يومَ القيامة, وآثامَ مَنْ قَلَّدَهم واستجاب لِدَعوتِهم.
ومِنْ ذلكَ قَولُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ دعا إلى هُدَى, كان له مِنِ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تِبِعَهُ, لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شيئاً. وَمَنْ دعا إلى ضَلالةٍ كان عليهِ وِزْرُ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارِهِم شيئاً ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ).
فاتقوا اللهَ أيها المسلمون, واعلمُوا أنه كَما أَنَّ مَنْ تَرَكَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِه يَبْقَي له أَجْرُه, فكذلك مَنْ تَرَكَ عِلْما يَضُرُّ عَقيدَةَ الناسِ وأخلاقَهُم فإنه يَتَضَرَّرُ بِذلك. وكذلك مَنْ تَرَكَ ولداً صالحا يدعو له ويستغفرُ له فإنه يَنتَفِعُ بِدُعائِه وصَلاحِه. فكذلك مَنْ تَرَكَ ولداً قَدْ رباه على عقيدةٍ باطٍلَة وسُلُوكٍ سَيِّءٍ فإنه يَتَضَرَّرُ بذلك بَعْدَ مَوْتِهِ والعياذ بالله. وكذلك مَنْ أَنْفَقَ مالَه في أمورِ الخيرِ التي يَسْتَمِرُّ نَفْعُها, فإنها تَجْرِي له بعد موتِه, فكذلك مَنْ أنفقَها في أمورٍ يَسْتَمِرُّ إثمُها وضَرَرُها, فإنها تَجْري له بعدَ مَوْتِهِ والعياذ بالله.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الواحدِ الأحدِ الصمدِ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكن له كُفُوا أحد، فاطرِ السماواتِ والأرضِ، جاعلِ الملائكةِ رسلاً أولي أجنحةً مثنى وثلاثَ ورباعَ، يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ، إنّ اللهَ على كلِ شيء قدير، ما يفتحِ الله للناس من رحمةٍ فلا مُمسكَ لها، وما يُمسك فلا مُرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:-
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعلمُوا أَنَّ مِنَ الأعمالِ عَمَلاً يَجْري للعبدِ بعد الموت, لا يَسْتَطيعُه كُلُّ أَحَد, ولا يَحْصُل لِكُلِّ أَحَدٍ, وإنما يَحْصُلُ فقط لِمَنْ ماتَ مُرابطاً في سبيلِ اللهِ, يَحْرُسُ في سبيلِ الله. وَهُوَ مَنْ يُرَابِطُ في الثُّغُورِ وحُدُودِ بِلادِ المسلمين, أو داخِلَ بِلادِ المسلمين, مِنْ أجْلِ حِفْظِ دِينِهِمْ وأَمْنِهِم ودِمائِهِم وأَعْراضِهِم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رِباطُ يَوْمٍ ولَيلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيامِ شَهْرٍ وقِيامِه، وإِنْ ماتَ جَرَى عليهِ عَمَلُهُ الذي كان يَعْمَلُه، وأُجْرِيَ عليهِ رزْقُهُ، وأَمِنَ مِنَ الفَتَّان ). رواه مسلـم. وَمَعْنَى جَرَى عليه عملُه: أي أَنَّ أعْمالَهَ الصالحةَ التي كان يَعْمَلُها قَبْلَ موتِه, تَبْقَى ولا تنقطعُ إلى قيامِ الساعة. صلاتُه وصيامُه, وتِلاوتُه, وبِرُّهُ بِوَالِدَيهِ, وصِلَتُه لِرَحِمِه, وصَدَقاتُه, وجميعُ الأعمالِ التي كان يَعْمَلُها قبلَ موتِه. فإنها مستمرةٌ لا تَنْقَطع. وزيادةً على ذلك: فإنه يأمَنُ الفَتَّان, أي لا يُمْتَحَنُ بِسُؤالِ المَلَكين, لأنه ماتَ وَهُوَ حارِسٌ على أَمْنِ المُسلمين, وعاشَ ساعاتِ الخوفِ, وعَرَّضَ نَفسَهُ للخَطر, بينما المسلمونَ آمِنُونَ في بُيُوتِهِم وبينَ أهليهِم. فَأَمِنَ الفَتَّانَ في قبرِه. فَيَنْبَغِي لِمَن كُلِّفَ بالمُرابَطَةِ على الحُدود, أو في الداخلِ مِنْ رجالِ الأمنِ أنْ يَحْتَسِبَ الأجرَ على الله, كَيْ يَنَالَ هذا الأجرَ العظيم.
اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح قلوبنا وأعالنا، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً واجعلهم قوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، وانصر جنود التحالف على الحوثيين وأعوانهم، وعلى من يكيد لنا ويتربص بنا الدوائر يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ لبلادنا أمنها، واحفظها ممن يكيد لها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|