الـعَـدْلُ فِـي التـَصـرُّفـاتِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها الناسُ: اتقُوا اللهَ تعالى،
واعْرِفُوا نِعْمَتَه عَلَيْكُم بِما شَرَعَ لَكُمْ مِن العِباداتِ التي تَصِلُونَ
بِها إلى أَعْلَى الدرجاتِ، وَأَكْمَلِ الْمَقاماتِ، فَلَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَنا
عِبادِاتٍ مُيَسَّرَةٍ مُصْلِحَةٍ لِلْقَلْبِ والبَدَنِ والدنيا والدِّينِ، ولا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها. لَوْ تَأَمَّلْنَا العِباداتِ
البَدَنِيَّةِ، لَوَجَدْناها لا تَسْتَغْرِقُ مِنْ أَوْقاتِنا وأعمالِنا إلا
القلِيلَ، وَلَوْ نَظَرْنا إلى العِباداتِ الْمالِيَّةِ، لَرَأَيْناها لا تَطْلُبُ
مِنْ مالِنا إلا القليلَ، ومَعَ ذلك فَإِنَّ ثَمَراتِ هذه الأعمالِ القَلِيلَةِ
والأموالِ المَبْذُولَةِ اليَسِيرَةِ كَثِيرةٌ كبيرةٌ، لِأَنَّ ثَمَراتِها صَلاحُ
الدُّنْيا والآخِرةِ، ومَعَ هذا كُلِّهِ إذا فَكَّرْنا في أَمْرِنا وَجَدْنا
أَنَّنَا نُفَرِّطُ في هذه العِباداتِ، ونُبالِغُ في طَلَبِ اللَّذَائِذِ
والشَّهَوَاتِ. أَعْمالُ
الدنيا نَحْرِصُ عَلَى إدْراكِها وتَحْصِيلِها، وَنَتَأَنَّى وَنَتَمَهَّلَ في
تَنْمِيَتِها وتَكْمِيلِها، مَعَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّنا لَنْ نَخْلُدَ فِيها،
وَلَنْ تَخْلُدَ لَنا، وَأَنَّ الأعمالَ الصالِحَةَ هِي التي سَتَبَقَى لَنَا
وَنَخْلُدَ لَها عِنْدَ حُصُولِ ثَوابِها. تَجِدُ الكثيرَ يَتَوانَى عَن القِيامِ
إلى صَلاتِهِ، وإذا قام إلَيْها أَدَّاها بِسُرْعَةٍ مُخِلَّةٍ بِها، لا
يَطْمَئِنُّ ولا يَتَمَهَّلُ ولا يَتَدَبَّرُ ما يَقُولُ، ورُبَّما كان بَدَنُهُ
حاضِرًا، وَقَلْبُهُ غائِبًا، يَتَجَوَّلُ في دنياه، فَيَخْرُجُ مِنْ صَلاتِهِ لا
يَعْقِلُ مِنْها شَيْئًا. وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لِدُنْياه،
لَتَمَهَّلَ فِيهِ وَتَأَنَّى وَحَرِصَ عَلَى تَكْمِيلِهِ وإِتْقانِهِ، وَأَشْغَلَ
فِكْرَهُ وَبَدَنَه لِذلك، وَلَوْ أَضاعَ مِنْ أجْلِهِ الوَقْت الكثيرَ! فَهَلْ
مِنْ العَدْلِ والعَقْلِ أَنْ يُخِلَّ العَبْدُ بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَيُؤَدِّي
عَمَلَ الدُّنْيا كامِلًا؟! مَعَ أَنَّ عَمَلَ الدنيا زائِلٌ، وعَمَلَ الآخِرَةِ
هُوَ الباقِي، قال اللهُ تعالَى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾. يُطْلَبُ مِن الإنسانِ أَنْ يُؤَدِّيَ
زكاةَ مالِهِ، فَيَبْخَلُ في ذلك، وَيَشُحُّ عَلَيْهِ، وإذا أَخْرَجَها فَرُبَّما
يُخْرِجُها عَلَى وَجْهٍ ناقِصٍ، قَدْ لا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ، إلا مَنْ
رَحِمَ اللهُ. وكذلكَ لَوْ رَأَى مَلْهُوفًا أَوْ قَرِيبًا لَه فَقِيرًا أَوْ
يَمُرُّ بِأَزْمَةٍ مالِيَّةٍ، فَإِنَّه لا يُلْقِي لِذلكَ بالًا، وَلَوْ طَلَبَ
مِنْه مُساعَدَةً، فَكَأَنَّه يَدْفَعُ غَرامَةً مَالِيَّةً، ولَكِنَّه مَعَ ذلك
يَسْهُلُ عَلَيْهِ غايَةَ السُّهُولَةِ أَنْ يَبْذُلَ الْمالَ فيما لا يُفِيدُ،
وَرُبَّما فيما يَكُونُ وَبالًا عَلَيْهِ ونَقْصًا في دِينِهِ. فَمَا أَكْثَرَ ما
يَبْذُلُ مِنْ مالِه فِي الأُمُورِ الكَمَالِيَّةِ التي يَتَرَفَّهُ بِها
وَيَتَنَعَّمُ، ومَا أَقَلَّ ما يَبْذُلُه فِيما يَنْفَعُه في أَمْرِ دِينِهِ
ودُنْياه. فَهَلْ هذا مِنْ العَدْلِ والإنصافِ؟! كَثِيرٌ مِن الناسِ
يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ مالَهَ وبَدَنَهُ في الذهابِ إلى العُمْرَةِ،
وَرُبَّمَا لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الفَرِيضَةِ بِحُجَّةِ غَلاءِ تَكْلُفَةِ الحَجِّ،
ولَكِنَّه يَسْهُلُ عَلَيْه أَنْ يَبْذُلَ أَكَثَرَ مِنْ ذلك في السياحَةِ التي لا
تُفِيدُ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِنَقْصِ دِينِهِ وَقَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّه. وَكَثيرٌ مِنْ الناسِ أَيْضًا: يَقْضِي
وَقْتَه الطَّوِيلَ أَمامَ الإِنْتَرْنِت وأجْهِزَةِ الجَوَّالِ التي عَزَلَتْ الْمُجْتَمَعَ
بَعْضَهُم عَنْ بَعْضٍ حَتَّى وَهُمْ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، فَمَلَأَتْ قُلُوبَهُم
وَحْشَةً وَجَفْوَةً، بَيْنَما يَسْتَخْسِرُ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفْسِهِ وَقْتًا
يَتْلُو فِيهِ كِتابَ اللهِ، أَوْ يَدْرُسُ سُنَّةَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلم. وَكَثِيرٌ مِن الناسِ أَيْضًا: مَنْ إذا
خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ مَقَرِّ دِراسَتِه، صارَ هَمُّهُ الأَكْبَرُ، مَتَى
يَذْهَبُ إلى الاستِراحةِ، فَيَقْضِي مُعْظَمَ وَقْتِهِ هُناكَ، لا يُرَاعِي
حُقُوقَ والِدَيْه، أو زَوْجَتِهِ وَأَوْلادِه عَلَيْه، ولا يَكُونُ لَهُ
تَوَاجُدٌ في بَيْتِهِ، يُحَقِّقُ بِهِ قَوَامَتَه ورِعايَتَه وَنُصْحَهُ
وَتَوْجِيهَه. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة
الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحِيحَيْنِ أَنَّ
عَمْرَو بْنَ العاصِ رضيَ اللهُ عَنْه، زَوَّجَ ابْنَه عَبْدَاللهِ، فَكانَ
عَبْدُاللهِ لا يَنَامُ مَعَ أَهْلِهِ إلا قَلِيلًا، لِأَنَّه يَقُومُ اللَّيْلَ
وَيَصُومُ النهارَ، وَمُتَفَرِّغٌ لِلعِبادَةِ تَفَرُّغًا تامًّا أَضَرَّ
بِزَوْجَتِه، فَلَمَّا سَأَلَ عَنْهُ أَبُوهُ، قالَت: واللهِ لا يَرْقُدُ عَلَى
فِراشٍ، فَإِنَّه يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا عَلِمَ النبيُّ صلى الله عليه
وسلم، ذَهَبَ إِلَيْهِ، وقالَ لَه: (اقْرَأِ
القُرْآنَ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ كُلَّ عِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ كُلَّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ
أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ). وَقالَ لَه أَيْضًا: (صُمْ
وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ
لَعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ
لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا). اللهُ أَكْبَر!!
إذا كانَ الشَّخْصُ يُلامُ إذا كانَ تَفَرُّغُهُ لِنَوافِلِ العِباداتِ عَلَى
حِسابِ القِيامِ بِحُقُوقِ أَهْلِهِ، فَكَيْفَ بِحالِ هَؤْلاءِ الذينَ
أَشْغَلَتْهُم أَهْواؤُهُم واسْتِراحاتُهُم وأَجْهِزَتُهُمْ عَنْ حُقُوقِ
أَهْلِيهِم وَأَوْلادِهم؟! فَلَيَسَ مِن العَدْلِ فِي التَصَرُّفاتِ أَنْ يَصِلَ
بِنا الأَمْرُ إِلَى هذه الحالِ. فَيَا عِبادَ
اللهِ: عَلَيْنا أَنْ نُحاسِبَ أَنْفُسَنا في تَصَرُّفاتِنا، وَأَنْ
نُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه، مَعَ الابْتِعادِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ. وَأَنْ لا
نُجْحِفَ في أَعْمالِ الآخِرَةِ ونُقَصِّرَ فِيها. وأَنْ لا نُسْرِفَ في أَعْمالِ
الدنيا، ونُغالِيَ فيها. اللهمَّ
لا تَجْعَلِ الدنيا أَكْبَرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، اللَّهُمَّ اهْدِنا
لِأَحْسَنِ الأخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ عَنَّا
سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أنْتَ، اللهم خلّصنا من حقوقِ خلقِك
وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك، وتوفنا مسلمين، وألْـحِقنا في الصالحين يا رب
العالمين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها
معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير
والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع
كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً
على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظ لبلادنا
دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها واحم حدودها وانصر جنودها،
اللهم وفق حكامنا وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|