الاسْتِعاذَةُ باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واذكُروا
نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ، واسأَلُوهُ أَنْ يُعِينَكُم عَلَى شُكْرِها. واعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ تَعالى فَتَحَ لَكُمْ بابًا عَظِيمًا، فيه صَلاحُ أَمْرِ دِينِكُمْ
ودُنياكُم. مَنْ اسْتَغَلَّهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ أَفْلَحَ، وَمَنْ أَعْرَضَ
عَنْهُ حُرِمَ الخَيْرَ الكثيرَ، وَهُوَ إِلى الخَسارَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى
الفَلاحِ. وهذا البابُ هُوَ بابُ الدُّعاءِ،
مَنْ لَزِمَه ودَاوَمَ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ وانْتِفاءِ مَوَانِعِهِ، فَلْيُبْشِرْ
بالخَيْرِ والسعادةِ والفَلاحِ. قال تعالى: ﴿ وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾. وقالَ رسولُ اللهِ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ لَمْ يَسْأَل اللهَ يَغْضَبْ
عَلَيْهِ ). وهذا كُلُّه مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبادِه، وَأَنَّه
أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى
اللهُ عليه وسلم مِن الأَدْعِيَةِ والإسْتِعاذاتِ مَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يَعْتَنِيَ بِها، وَأَنْ لا يَحْرِمَ نَفْسَه مِنْها.
وَمِنْ
ذلك: ما رواه البخاريُّ عن أَبِي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ
عليه وسلم قال: ( تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ جَهْدِ
البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأعْداءِ ).
فَأَوَّلُ هذه
الأُمُورِ الأربعةِ جَهْدُ البَلاءِ: وَهُوَ كُلُّ ما أصابَ الْمَرْءَ مِنْ
شِدَّةٍ ومَشَقَّةٍ، ومَا لا طاقَةَ لَهُ بِه.
فَيَدْخُلُ في
ذلك: الْمَصائِبُ، والفِتَنُ التي تَجْعَلُ الإنسانَ قَدْ يَتَمَنَّى
المَوْتَ بِسَبَبِها. والأمراضُ التي لا يَقْدِرُ على تَحَمُّلِها أَوْ عِلاجِها. وَيَدْخُلُ في ذلك: الدُّيُونُ التي لا يَسٍتَطِيعُ العَبْدُ وَفاءَها.
وَيَدْخُلُ في
ذلك: الأخبارُ الْمُنَغِّصَةُ التي تَمْلأُ قَلْبَه بِالهُمُومِ
والأَحْزانِ والنَّكَدِ، وَتُشْغِلُ قَلْبَه بِما لا يُصْبَرُ عَلَيْه.
ويَدْخُلُ في ذلك: ما ذَكَرَهُ
بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَنَّه: " قِلَّةُ الْمَالِ مَعَ كَثْرَةِ العِيالِ
".
الثانِي،
دَرَكُ الشَّقاءُ: أَيْ، أَعُوذُ بِكَ أَنْ يُدْرِكَنِي الشَّقاءُ
وَيَلْحَقَنِي. والشَّقاءُ: ضِدُّ السَّعادَةِ، وَهُوُ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ.
فَأَمَّا
الدُّنْيَوِيُّ: فَهُوَ انْشِغالُ القَلْبِ والبَدَنِ بِالْمَعاصِي،
واللَّهَثُ وَراءَ الدُّنْيا والْمُلْهِياتِ، وَعَدَمُ التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا
الأُخْرَوِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مِنْ أَهْلِ النارِ
والعِياذُ بِالله. فَإِذا اسْتَعَذْتَ بِاللهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقاءِ، فَأَنْتَ
بِهذِه الإستِعاذةِ تَطْلُبُ مِنَ اللهَ ضِدَّه، ألا وَهُوَ السعادةُ في الدنيا
والآخرة.
الثالثُ، سُوءُ
القَضاءِ: وَهُوَ أَنْ تَسْتَعيذَ بِاللهِ مِن القَضاءِ الذي يَسُوءُكَ
وَيُحْزِنُكَ، ولَكِنْ إِنْ أَصابَكَ شَيْءٌ مِمَّا يَسُوءُ وَيُحْزِنُ، فالواجِبُ
هُو الصَّبْرُ مَعَ الإيمانِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ.
وَيَدْخُلُ في
الإستِعاذَةِ مِنْ سُوءِ القَضاءِ: أَنْ يَحْمِيَكَ اللهُ مِن اتِّخاذِ
القَرَارَاتِ والأَقْضِيَةِ الخاطِئَةِ التي تَضُرُّكَ في أَمْر دِينِكَ
ودُنْياكَ. فَإِنَّ مِن الناسِ مَنْ لا يُوَفَّقُ فِي اتِّخاذِ القَرارِ الْمُناسِبِ،
وَقَدْ يَجُورُ في الحُكْمِ، أَوْ الوَصِيَّةِ، أَوْ فِي العَدْلِ بَيْنَ أولادِه،
أو زَوجاتِه، أَوْ رَعِيَّتِه، أَوْ مَنْ تَحَتَ مَسْؤُولِيَّتِهِ إذا كانَ
وَزِيرًا، أَوْ رَئِيسًا، أَوْ مُديرًا.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ
اللهِ: الأَمْرُ الرابِعُ في هذا الحديثِ، هُو الإستِعاذَةُ باللهِ مِن شَماتَةِ
الأعداء: والْمَرْءُ في الغالِبِ، لا يَسْلَمُ مِمَّنْ
يُعادِيهِ. وَعَدُوُّكَ يَفْرَحُ إذا حَصَلَ لَكَ ما يَسُوءُكَ، ويَغْتَمُّ إذا
حَصَلَ لَكَ ما يُفرِحُك، أَوْ رَأَى نِعْمَةً مُتَجَدِّدةً لَك. فَأَنْتَ بِهذِه
الإستعاذةِ، تَسْأَلُ اللهَ أَنْ لا يَفْرَحَ أَعْداؤُكَ وحُسَّادُك بِأَمْرٍ
يُصيبُكَ، وَأَنْ لا يَجْعَلَكَ مَحَلَّ شَماتَةٍ وسُخْرِيَهٍ لَهُم. سَواءً كانت
عَدَاوَتُهُم لَكَ دِينِيَّةً، أَوْ دُنْيَوِيَّةً.
واحْرِصْ
أَيُّها الْمُسْلِمُ أَنْ لا تَكُونَ مِن الشَّامِتِينَ،
فَإِنَّ ذلكَ مِنْ مَساوِئِ الأَخْلاقِ، وَلِأَنَّ الإنسانَ قَدْ يَشْمَتُ
بِأَخِيه، فَلا يَلْبَثُ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِ ما ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُه،
فَقَدْ تَشْمَتُ بِمَريضٍ فَتُبْتَلَى، وَقَدْ تَشْمَتُ بِفَقيرٍ فَتُبْتَلَى
بِالفَقْرِ، بَلْ قَدْ تَشْمَتُ بِمَنْ ابْتُلِي بِمَعْصِيَةٍ، كالزِّنا أَو الْمُخَدِّراتِ
فَتُبْتَلَى والعِياذُ بِالله، والْمَشْرُوعُ أَنْ تَسْأَلَ اللهَ العَفْوَ
والعافِيَةَ في الدنيا والآخرة.
فَفِي هذا
الحديثِ: دَلِيلٌ عَلِى اسْتحبابِ الإستعاذةِ باللهِ مِن هذِهِ الأُمُورِ
الْمَذْكُورةِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يَسْتَعيذَ باللهِ مِنْها، وَأَنْ لا يَحْرِمَ نَفْسَه مِن الْمُدَاوَمَةِ
عَلَيْها، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَسْتَجيبِ لَه.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ ذلك زَوْجَتَه
وَأَوْلادَه، وَأَنْ يَحُثَّهُم عَلَى حِفْظِ هذا الدُّعاءِ والْمُداوَمَةِ
عَلَيْه، فَوَاللهِ لَئِنْ اسْتَجابَ اللهُ لَكَ فَأَنْتَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ
البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضاءِ، وَشَماتَةِ الأَعْداءِ، اللَّهُمَّ
أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ استعملنا في
طاعتِك، وثَبِّتْنا على دينِك، وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا،
وخَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك وتوفَّنَا مسلِمِين
وألْحِقْنا بالصالحينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين،
اللهُمَّ أنزلْ على المسلمينَ رحمةً عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمين على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً
واجعلْهُم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَنْ سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم
مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ لها،
وأَعِذْهَا من شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ، اللهُمَّ
وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، واجعلهم من أنصارِ دينِك،
وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|