حُسْنُ الْخُلُقِ
الْحَمْدُ للهِ ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى وَالرَّسُولُ الْمُجْتَبَى ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَتَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ وَاهْتَدَى . أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ- بِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنَ الدِّينِ ، وَمِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ ، وَمِنْ أَهَمِّ سِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِ فَقَالَ : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، سُئِلَتْ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ؛ أَيْ : يَعْمَلُ وَيَتَمَسَّكُ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى ، وَهَكَذَا هُمْ أَهْلُ التُّقَى وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ ـ جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ . وَمَعْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - ؛ أَيْ : بَذْلُ النَّدَى ، وَكَفُّ الْأَذَى ، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ . بَذْلُ النَّدَى يَعْنِي : الْكَرَمَ ؛ تَكُونُ كَرِيمًا بَيْنَ النَّاسِ ، تَبْذُلُ مَا تَسْتَطِيعُ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ نَفْسٍ ، مُخْلِصًا للهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ، فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا مُبْتَسِمًا طَلِيقَ الْوَجْهِ ، لَا تَكُونُ مُتَغَطْرِسًا عَابِسًا كَأَنَّ مَعِيشَةَ الْخَلْقِ عَلَيْكَ ، وَمَعَ الْبَذْلِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ ، تَكُفُّ أَذَاكَ عَنِ النَّاسِ ، لَا تُؤْذِي أَحَدًا لَا بِقَوْلٍ وَلَا بِفِعْلٍ ، مُرَادُكَ وَمَقْصَدُكَ فِي ذَلِكَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا مَدْحُ النَّاسِ وَلَا ثَنَاؤُهُمْ . وَلِحُسْنِ الْخُلُقِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ، وَمَنَافِعُ عَاجِلَةٌ وَآجِلَةٌ ، وَثِمَارٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَلَكِنْ مِنْهَا : أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الصَّحِيحِ : « أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا . وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ » ، فَإِذَا رَأَيْتَ - أَخِي الْمُسْلِمُ - حَسَنَ الْخُلُقِ ؛ فَاسْأَلِ اللهَ أَنْ يُبَلِّغَكَ مَا بَلَغَهُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ . وَمِنْ فَوَائِدِ حُسْنِ الْخُلُقِ ؛ تَأْهِيلُ صَاحِبِهِ لِبُلُوغِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ ، وَالْمَنَازِلِ اَلْرَّفِيْعَةِ السَّامِيَةِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ » . وَيَقُولُ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا » ، تَخَيَّلْ أَخِي الْمُسْلِمُ ؛ لَوِ اسْتَدْعَاكَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَجْلَسَكَ بِجَنْبِهِ ! فَكَيْفَ بِكَ وَأَنْتَ بِقُرْبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ! فَحَسِّنْ خُلُقَكَ . وَمِنْ فَوَائِدِ وَثِمَارِ حُسْنِ الْخُلُقِ : نَيْلُ مَحَبَّةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَمَغْفِرَتِهِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ ، مَا يَتَكَلَّمُ مِنَّا مُتَكَلِّمٌ ، إِذْ جَاءَهُ أُنَاسٌ فَقَالُوا : مَنْ أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ؟ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا » . وَمِنْ فَوَائِدِ حُسْنِ الْخُلُقِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَ صَاحِبَهُ بَيْتًا فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتِ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ ؛ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ ؛ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ ؛ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ ». وَمِنْ فَوَائِدِ حُسْنِ الْخُلُقِ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ مَحَبَّةُ النَّاسِ الْأَسْوِيَاءِ لِصَاحِبِهِ ، وَفِي ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ فِي دُنْيَاهُ وَفِي آخِرَتِهِ ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُّوهُ ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ . أَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَرْزُقَنِي وَإِيَّاكُمْ حُسْنَ الْخُلُقِ ، إِنَّهُ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبٌ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : لَا شَكَّ أَنَّ لِحُسْنِ الْخُلُقِ مَنْزِلَةً عَظِيمَةً ، وَمَكَانَةً سَامِيَةً رَفِيعَةً ، وَهُوَ أَمْرٌ يَتَمَنَّاهُ كُلُّ عَاقِلٍ ، وَهُنَاكَ بَعْضُ الْعَلَامَاتِ ، الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا حَسَنُ الْخُلُقِ مِنْ غَيْرِهِ ، جَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ : هُوَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ ، قَلِيلَ الْأَذَى ، كَثِيرَ الصَّلَاحِ صَدُوقَ اللِّسَانِ ، قَلِيلَ الْكَلَامِ ، كَثِيرَ الْعَمَلِ قَلِيلَ الزَّلَلِ ، قَلِيلَ الْفُضُولِ ، بَرًّا وَصُولًا وَقُورًا صَبُورًا شَكُورًا رَضِيًّا حَلِيمًا رَفِيقًا عَفِيفًا شَفِيقًا ، لَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا وَلَا نَمَّامًا وَلَا مُغْتَابًا وَلَا عَجُولًا وَلَا حَقُودًا وَلَا بَخِيلًا وَلَا حَسُودًا ، بَشَّاشًا هَشَّاشًا يُحِبُّ فِي اللهِ وَيُبْغِضُ فِي اللهِ ، وَيَرْضَى فِي اللهِ وَيَغْضَبُ فِي اللهِ ، فَهَذَا هُوَ حَسَنُ الْخُلُقِ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : حُسْنُ الْخُلُقِ ، هُوَ فِعْلُ الْفَرَائِضِ وَالْفَضَائِلِ ، وَاجْتِنَابُ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالرَّذَائِلِ . أَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَ - أَنْ يَهْدِيَنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا هُوَ ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمُّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرُدُّ بِهَا الْفِتَنَ عَنَّا، وَتُصْلِحُ بِهَا حَالَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غَائِبَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتُبَيِّضُ بِهَا وُجُوهَنَا، وَتُزَكِّي بِهَا أَعْمَالَنَا، وَتُلْهِمُنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمُنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. عِبَادَ اللهِ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ . |