حسن العشرة
الحمد لله اللطيف الخبير ، القوي القدير ، والسميع البصير ، الذي له : } مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه ، إلى يوم الدين .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لعباده الأولين والآخرين ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
حسن العشرة ، مظهر إسلامي ، وصفة إيمانية ، وعمل يحبه الله U ، فالمسلم ينبغي له أن يكون حسن العشرة مع من يتعامل معه ، ومع من يخالطه ، ومع من يحتك به في أمور حياته ، المسلم ـ أيها الأخوة ـ يجب أن يكون حسن العشرة مع زوجته ، ومع خادمه ، ومع جيرانه ، ومع زملائه في عمله ، بل ومع عامة الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم .
ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن حسن العشرة ، أمر تقضيه نصوص الكتاب والسنة ، فكل ما تمسك المسلم ، وعمل بأمر ربه U ، وسار على هدي نبيه r ، صارت عشرته لمن حوله ، عشرة حسنة ، أما ـ والعياذ بالله ـ إذا كان بالنسبة لأمر الله U ونهيه ، كالأرض التي لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ،كما قال النبي r ، فإنه سوف يكون سيئ العشرة ، لأنه يتعامل مع غيره حسب شهواته وملذاته وهواه ، وكما قال تبارك وتعالى : } وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ { .
بل ـ أيها الأخوة ـ لا تسيئ عشرة المسلم ، إلا إذا كان للشيطان نصيب في أمره ونهيه ، لأن من عادات الشيطان وأعماله ، الأمر بكل أمر سيئ ، كما قال تبارك وتعالى : } وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ { وفي الحديث الصحيح ، يقول النبي r : (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )) ، وسوء العشرة ـ أيها الأخوة ـ أقصر طريق للوقوع في تحريش الشيطان ، ومن ثم التقاطع والتهاجر ، وكثرة الخصومات ، والبغض والكره ، وغير ذلك مما ينافي العشرة الحسنة .
فحسن العشرة ـ أيها الأخوة ـ هو نتيجة من نتائج طاعة الله U ، وثمرة من ثمار الاقتداء بالنبي r . تأملوا ـ أيها الأخوة ـ قول الله U : } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا { فالله U في هذه الآية يأمر بعبادته ، وينهى عن الإشراك به ، ومعهما إحسان عبده إلى من حوله ، وإلى من يحتك به ، أو يتعامل معه ، ابتداء بالوالدين وانتهاء بالخدم ، مرورا بالأقارب ، والأيتام والمساكين ، والجيران والأصحاب ، بل حتى الغريب الذي قد لا تطول غربته ، مأمور بالإحسان إليه ، ومعاشرته بإكرامه ومؤانسته .
فحسن العشرة ـ أيها الأخوة ـ من الدين ، ولذلك النبي r ضرب لنا أروع الأمثلة في هذا الجانب الإيماني العظيم : ففي الحديث الصحيح يقول أنس t : خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي : أُفٍّ ، قَطُّ ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ : لِمَ صَنَعْتَهُ ؟ وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ : لِمَ تَرَكْتَهُ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا ، وَلا مَسسْتُ خَزًّا قَطُّ ، وَلا حَرِيرًا ، وَلا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ r ، وَلا شَمِمْتُ مِسْكًا ، وَلا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ r .
وفي الحديث الصحيح أيضا ، تقول عائشة ـ رضي الله عنها : مَا ضَرَبَ رسولُ الله r شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلاَ امْرَأةً وَلاَ خَادِماً ، إِلاَّ أنْ يُجَاهِدَ فِي سَبيلِ اللهِ ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ ، إِلاَّ أن يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ تَعَالَى ، فَيَنْتَقِمُ للهِ تَعَالَى .
بل ـ أيها الأخوة ـ من حرص النبي r ، على حسن عشرته لأصحابه ، نهى عن نقل أخبارهم إليهم ، كما في الحديث الذي رواه ابو داود والترمذي عن ابن مسعود t ، قال : قال النبي r : (( لا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئاً ، فإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنَا سَليمُ الصَّدْرِ )) .
فحسن العشرة ـ أيها الأخوة ـ من الأمور المهمة ، التي يجب أن يحرص عليها المسلم ، بل هي عبادة عظيمة ، يجب أن تكون خالصة لوجه الله U ، لا تكون من أجل مصلحة دنيوية ، أو منفعة ذاتيه ، كما يفعل أكثر الناس ، الذين لا تحسن عشرتهم إلا عند مصالحهم ، فإذا كان لأحدهم حاجة ما ، وجدته حسن العشرة مع من عنده حاجته ، فالابتسامة العريضة ، والكلام المعسول ، وأنواع التقدير ، وأشكال الاحترام ، والسلام والزيارات والاتصالات ، والسؤال عن الأحوال ، وعبارات المدح والثناء ، وغير ذلك من الأمور التي تنتهي ، بحصوله على حاجته .
فلنتق الله ـ أيها الأخوة ـ ولنحرص على حسن عشرة من حولنا ، ولنتقرب إلى الله U بذلك .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن لحسن العشرة فوائد عظيمة ، ومنافع كثيرة ، فمع كونه عمل يرضي الله U ، فهو أمر يشيع الألفة والمحبة بين المسلمين ، ويقوي الروابط بين أفراد المجتمع ، ويزيل الأحقاد والعداوة والحسد من القلوب ، فينبغي للمسلم الذي يريد وجه الله والدار الآخرة ، أن يكون حسن العشرة مع من حوله ، وأولى الناس بذلك الأم والأب ، ففي الحديث الصحيح جاء رجل إلى النبي r فقال يا رسول الله : مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : (( أُمُّكَ )) قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ : (( أُمُّكَ )) قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ : (( أُمُّكَ )) قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ : (( ثُمَّ أَبُوكَ )).
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ الزوجة ، فحسن عشرتها عبادة أمر الله U بها ، كما قال تبارك وتعالى : } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا { وفي الحديث الذي صححه الألباني ـ رحمه الله ـ يقول r : (( خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي )) .
أيها الأخوة :
والخدم أيضا ، من الذين تتأكد حسن عشرتهم ، ففي الحديث الصحيح يقول r : (( هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوْهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ فَلْيُعِنْهُ )) .
وأخيرا ـ أيها الأخوة ـ حسن العشرة يكون لعامة الناس ، كالجلساء والأصحاب والزملاء وغيرهم ، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما : لِجَلِيسي عَلَيَّ ثَلَاثٌ : أَنْ أَرْمُقَهُ بِطَرْفِي إذا أَقْبَلَ ، وَأُوَسِّعَ لَهُ إِذَا جَلَسَ ، وَأُصْغِيَ لَهُ إِذَا حَدَّثَ .
ويقول معاذ بن جبل t : إِنَّ الْمُسْلِمَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا فَضَحِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَجْهِ صَاحِبَهِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا كَتَحَاتِّ وَرَقِ الشَّجَرِ .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم جنبنا الفتن ماظهر منها وما بطن ، اللهم اصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم عجل بفرج المسلمين في سوريا ، اللهم احقن دماءهم ، واحفظ أعراضهم ، اللهم آمن روعهم ، وعجل بفرجهم يا أرحم الراحمين .
اللهم عليك بمن استضعفهم وقتلهم وشردهم ، اللهم عليك به وبمن ساعده أو سانده ، أو أمده وأيده ، اللهم عجل بهلاكه وزوال حكمه ، ياقوي يا عزيز .
اللهم أحفظ لنا أمننا ، وسدد ولاة أمرنا ، وآمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك يارب العالمين .
اللهم من أرادنا بسوء اللهم اشغله في نفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يارب العالمين .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html |