الشح وخطره
الحمد لله الرحيم الودود ، المتصف بالكرم والجود ، ذي الفضل والإحسان ، القائل في كتابه : } فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، دائم الملك والسلطان ، } ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، } أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله سبحانه لعباده ، الأولين والآخرين ، يقول تبارك وتعالى : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى أبو داود في سننه ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ r ، فَقَالَ : (( إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا )) والحديث صححه الألباني ـ رحمه الله ـ .
ففي هذا الحديث ، يحذر النبي r أمته ـ التي كل واحد منا ، يعتبر فرد من أفرادها ـ من هذه الصفة الذميمة ، والرذيلة المهلكة ، والخلق الذميم ، الشح ـ أيها الأخوة ـ وهو البخل مع الحرص ، الذي تمكن من نفوس كثير من المسلمين ، فصار أكثر الناس يعيش فقيرا وهو من أغنى الناس بسببه ، فالشحيح يبخل حتى على نفسه ، تجده يملك الأموال الطائلة ، وعنده الأرصدة المكدسة ، ولكنه وبسبب هذا الداء الخطير ، يعيش عيشة الفقراء ، يده مغلولة إلى عنقه ، يأمره شحه بالبخل فيبخل ، ويأمره بقطيعة الرحم فيقطع ، ويأمره بالفجور فيفجر ـ والعياذ بالله .
وما اسوأ هذه الصفة ـ أيها الأخوة ـ عندما يتصف بها ، مسؤول من المسؤولين عن مصالح المسلمين ، الذي يصير حجر عثرة بين المسلم وولي أمره ، فإن كان الشحيح يبخل على نفسه ، فبخله على غيره من باب أولى .
أيها الأخوة :
فالشح صفة ذميمة ، وخلق من السوء بمكان ، حذر منه النبي r ، وأخبر بأنه سبب هلاك من اتصف به ، ممن كان قبلنا ، بل خاف منه النبي r على أمته وعده r إحدى الثلاث المهلكات ، ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبزار ، يقول النبي r : (( إن أخوف ما أخاف على أمتي شح مطاع وهوى متبع )) وفي الحديث الذي ذكره الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع ، يقول النبي r : (( ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ , وَهَوًى مُتَّبَعٌ , وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ )) .
والشح ـ أيها الأخوة ـ مع كونه وسيلة وسبب ، من وسائل وأسباب الهلاك ، فهو خلق مناف للإيمان ، المؤمن لا يكون شحيحا أبدا ، يستحيل أن يجتمع الإيمان والشح في قلب المسلم ، كما قال النبي r في الحديث الحسن : (( لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً )) إنما الشح صفة من صفات المنافقين ، الذين لم يؤثر الإيمان في قلوبهم ، ولم يزكي القرآن نفوسهم ، ولم تتربى على السنة عقولهم ، فلضعف يقينهم بما وعدهم الله U ، وعدم تصديقهم بما أخبر به النبي r ، هم كما قال تبارك وتعالى : } وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا { يقول ابن سعدي في تفسيره ـ رحمه الله ـ : أشحة بأبدانهم عند القتال ، وبأموالهم عند النفقة .
فضعف الإيمان وفقده ـ أيها الأخوة ـ هو الذي رسخ هذا الخلق الذميم ، وورث هذه الصفة السيئة في قلوب المنافقين ، أما المؤمنون ، فإيمانهم وتقواهم ومراقبتهم لله U وخوفهم منه سبحانه ، هو الذي يجعلهم يدفعون هذا الخلق ، ويجاهدون أنفسهم للتخلص منه ، كما قال تبارك وتعالى : } وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { .
فلنتق الله عباد الله ، ولنحذر هذا الخلق السيئ ، الذي يكفي في سوئه ، ووجوب الحذر منه ، أنه من السبع المهلكات ، ففي الحديث الذي رواه النسائي في سننه ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ )) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ ؟ قَالَ r : (( الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالشُّحُّ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن للشح ووجوده في نفس المسلم ، أضرار جسيمة ، فهو يورث قطيعة الرحم ، ويتسبب في انفصام عرى المحبة بين المسلمين ، ويؤدي إلى الظلم والبغي والعدوان ، بل وسفك الدماء كما جاء في الحديث ، وكذلك يجرئ على المعاصي وفعل السيئات ، ويوجب عذاب الله U ، فحري بالمسلم أن يحذر هذا الداء الخطير ، ويربي نفسه تربية إيمانية ، ويراقب الله U ظاهرا وباطنا ، وبرئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم اقنا شح أنفسنا ، واجعلنا من عبادك المفلحين . اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك، أن تغيث قلوبنا بالإيمان، وبلادنا بالأمطار، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللّهُمّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، هَنِيئًا مَرِيئًا ، غَدَقًا مُجَلّلًا ، عَامّا طَبَقًا ، سَحّا دَائِمًا ، اللّهُمّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ ، اللّهُمّ ارْفَعْ عَنّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكُ اللّهُمّ إنّا نَسْتَغْفِرُكُ إنّك كُنْتَ غَفّارًا فَأَرْسِلْ السّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|