لا للتعصب
الحمد لله الذي خلق فهدى ، وجعل هداه هو الهدى ، وقسم عباده إلى أشقياء وسعداء ، فأما الذين شقوا ففي النار ، وأما الذين سعدوا فالجنة لهم موردا .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشكره على نعمه وآلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أرسله بالهدى ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه وبه اقتدى .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لعباده ، الأولين والآخرين ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا { ، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
من الأدواء الخطيرة ، التي أصيبت بها الأمة ، وتسببت في إضعاف شوكتها ، وأدت إلى تمزيق وحدتها ، ونقض بناء عزتها ، داء التعصب ، أو مايعرف بالتكتل ، كما سماه ناصر السنة : الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى .
وهذا الداء الذي أريد الحديث عنه ، وتبيين خطره وضرره ، والتحذير من شره ومغبته ، هو تكتل واجتماع ، مجموعة من الناس ، من أجل أمر لم يأمر الإسلام بالاجتماع عليه ، ويكون ولاؤهم وبراؤهم ، ومحبتهم وبغضهم من أجله ، ووزن غيرهم بميزانه ، ليس بميزان } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ { وشعور هؤلاء الناس ، بأنهم أفضل من غيرهم ، وأنهم هم أهل المكانة الرفيعة ، والمنزلة السامية ، والشأن العظيم ، وأن غيرهم شأنه الكره والبغض والاحتقار ، وأنه لا قيمة له ولا اعتبار .
وأمثلة ذلك ـ أيها الأخوة ـ في المجتمع كثيرة ، منها : التعصب للقبائل والأنساب ، والتعصب للجماعات والأحزاب ، والتعصب للمذاهب والجنسيات والبلدان ، واللهجات والأندية والأحياء والألوان !
تأمل نفسك أخي ، ماهو شعورك ، عندما يثنى على قبيلة غير قبيلتك ، أو يمجد نسب غير نسبك ، أو تمتدح جنسية غير جنسيتك ، أو يرفع من شأن بلدة غير بلدتك . إن هذا الذي تشعر به ، ويثير فيك ما لم يكن فيك من قبل ، فيجعلك تغلي من الداخل ، هذا هو التعصب بعينه .
بل تأمل ـ أخي ـ ما يشعر به ، المنتسبون إلى الجماعات والأحزاب ، كجماعة التبليغ ، وحزب الإخوان المسلمين ، وأدعياء السلفية الذين ليس لهم من السلفية إلا اسمها ، الذين يتكتلون ، كما قال الألباني ـ رحمه الله ـ ويعادون من لم يكن في تكتلهم ، ولم ينضم إلى جماعتهم أو حزبهم ، ولم يسير على منهجهم وطريقتهم ، حتى ولو كان أخا مسلما صالحا ، فأكرم الناس عندهم ، من أيدهم ومن كان معهم ، ومن دعا بدعوتهم ، حتى ولو كان تكفيريا خارجيا ، أو مشركا قبوريا ، أو مبتدعا صوفيا ، فهذا هو التعصب الذي جاء الدين بتحريمه ، وبمقت صاحبه وتجريمه .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالتعصب ظاهرة إجتماعية سيئة ، تسببت في تفريق الكلمة ، وإضعاف الشوكة ، وتقويض البناء ، وتمزيق جسد الأمة ، ولذلك حذر الله منه ، ونهى عنه ، فقال تبارك وتعالى : } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا { وقال U : } وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا { وفي الحديث الصحيح ، يقول النبي r : (( مَنْ تَرَكَ الطَّاعَةَ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٍ ، وَمَنْ خَرَجَ تَحْتَ رَايَةٍ عَصَبِيَّةً ، يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ ، أَوْ ينصر عَصَبِيَّةً ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ فَقُتِلَ ، فَقَتْلُهُ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا ، لاَ يُحَاشَ مِنْ مُؤْمِنٍ ، وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدِهَا ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ )) فالتعصب أمر يجب الحذر منه ، وكما قال ابن القيم ـ رحمه الله :
وَتَعَرَّ مِنْ ثَوْبَيْنِ مَنْ يَلْبَسْهُمَا
يَلْقَ الرَّدَى بِمَذَلَّةٍ وَهَوَانِ
ثَوْبٍ مِنَ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَوْقَهُ
ثَوْبُ التَّعَصُّبِ بِئْسَتِ الثَّوْبَانِ
المسلم ـ أيها الأخوة ـ الذي يريد وجه الله ، والدار الآخرة ، لا يتعصب إلا لأمر الله U ونهيه ، ولا يتكتل إلا مع من تمسك بكتاب الله U وسنة نبيه r ، ولا يوالي ولا يعادي إلا من أجل سبيل الله U ودينه ، ففي الحديث الصحيح ، يقول عبدالله بن مسعود t : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ r خَطًّا ، فَقَالَ : (( هَذَا سَبِيلُ اللهِ )) ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ، فَقَالَ : (( هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ )) ، ثُمَّ تَلاَ : } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { ، فسبيل الله U واحد ، هو الذي يوالى من أجله ، ويعادى من أجله ، ويقرب من أجله ، ويبعد من أجله ، ويقبل من أجله ، ويرفض من أجله ، ويقدم من أجله ، ويؤخر من أجله ، فلنتق الله أحبتي في الله ، ولنحذر التعصب أو التكتل ، من أجل مظاهر زائفة ، أو مناهج مخالفة ، أو سبل متفرقة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا { ، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن التعصب الذي نحن بصدد الحديث عنه ، هو سبب تفرق المسلمين ، الذي أودى بعزة أمتهم ، وأدى إلى هوان دولتهم ، وذهاب ريحهم الذي حذر الله منه بقوله : } وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ { . فيجب علينا ـ أيها الأخوة ـ أن نربأ بأنفسنا عن ما يكون سببا في تفرقنا ، ولنحرص على ما يؤلف بين قلوبنا ، ألا وهو الإيمان ، تلك النعمة العظيمة ، والمنة الكريمة ، الذي فيها نجاتنا بالدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : } وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { ولنكن إخوانا ـ أيها الأخوة ـ كما أمر النبي r في الحديث الصحيح : (( وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُه )) .
إن التفرق ـ أيها الأخوة ـ أمر خطير ، ولا أدل على خطورته ، من قول النبي r في الحديث الذي رواه مسلم : (( مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ )) .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم احفظ لنا أمننا ، ووحدة صفنا ، واجتماعنا على علمائنا وولاة أمرنا ، اللهم من أرادنا بسوء ، اللهم اشغله في نفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره ، يارب العالمين . اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللّهُمّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، هَنِيئًا مَرِيئًا ، غَدَقًا مُجَلّلًا ، عَامّا طَبَقًا ، سَحّا دَائِمًا ، اللّهُمّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ ، اللّهُمّ ارْفَعْ عَنّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكُ اللّهُمّ إنّا نَسْتَغْفِرُكُ إنّك كُنْتَ غَفّارًا فَأَرْسِلْ السّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا . } رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|