دعونا من المنتنة
الحمد لله المعروف بالقدم ، قبل وجود الموجود ، الموصوف بالكرم ، والفضل والجود ، الواحد الأحد ، والفرد الصمد ، المنزه عن الآباء والأبناء والجدود ، والمقدس عن الصاحبة والوالد والمولود ، القائل في كتابه : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، له : } مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله واصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما . قَالَ : كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَار ! ـ أي ضربه ـ فقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنصار ! وَقَالَ المُهَاجِرِيِّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ! فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ الله r ، فقَالَ : (( مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ ؟ )) قَالُوا : يَا رَسُولَ الله ! كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ ، فَقَالَ r : (( دَعُوهَا ، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ )) . فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيِّ ، فَقَالَ : فَعَلوهَا ؟ أَمَا وَالله ! لَئِنْ رَجَعْنَا إِلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . فَبَلَغَ النَّبِيَّ r . فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ الله ! دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هاذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ النَّبيُّ r : (( دَعْهُ . لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ففي هذه الحادثة ، ومن خلال هذه الواقعة ، التي شهد أحداثها النبي r ، وبين حكم شرع الله U فيها ، يتبين لنا ـ أيها الأخوة ـ أهمية الاجتماع ، وخطورة التفرق والنزاع ، والحذر من عادات الجاهلية ، ووجوب القضاء على ما ينافي الدين ، وما يتسبب في تفريق وتمزيق وحدة المسلمين .
فالنبي r ـ أيها الأخوة ـ مناداة الأنصاري للأنصار ، والمهاجري للمهاجرين ، واستنجاد كل واحد منهم بقبيلته ، عده r من أمور الجاهلية التي جاء الدين بالقضاء عليها ، وتطهير القلوب من أدرانها ، وتزكية النفوس من أوضارها .
النبي r ـ أيها الأخوة ـ وصفها بالمنتنة ، أي الخبيثة الفاسدة ، التي تشمئز منها النفوس الطيبة ، وهي ـ والله كذلك ـ لأنها اسوأ أمور الجاهلية ، بوصف النبي r لها ، ولما لها من آثار سيئة ، وما يترتب عليها من أضرار كبيرة ، وأخطار كثيرة .
أيها الأخوة :
إن التعالي على الغير ، والنظر إلى الناس باحتقار وازدراء ، بسبب جنس أو عرق أو لون ، أو بداعي حسب أو نسب ، لأمر يبغضه الله U ، جاء الدين بتحريمه ، بل وتحريم كل وسيلة تؤدي إليه ، حتى ولو كانت في كلمة عابرة ، أو زلة لسان طائشة ، ففي الحديث الصحيح ، يقول ابو ذر t : سَابَبْتُ رَجُلاً وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهُ r فَشَكَانِى إِلَيْهِ فَقَالَ لِى : (( أَسَابَبْتَ فُلاَنًا ؟ )) . قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : (( فَهَلْ ذَكَرْتَ أُمَّهُ ؟ )) . فَقُلْتُ : مَنْ يُسَابِبِ الرِّجَالَ ذُكِرَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : (( إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ )) .
فإن كان أبو ذر ـ أيها الأخوة ـ لهذا السبب فيه جاهلية ، فكيف بغيره ؟
أبو ذر t ، الذي يقول عنه النبي r ، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : (( مَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ وَلَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ )) بسبب أنه حاول مضايقة مسلم من أجل أمه ؛ امرؤ فيه جاهلية ! فكيف بغيره ـ أيها الأخوة ـ ؟
كيف بمن لا يعدل ظفر من أظافر أبي ذر ، ويتطاول على المسلمين ، ويحتقرهم ، ويعمل ما بوسعه من أجل التقليل من شأنهم ، بل ويعمل على أحياء سنن الجاهلية بينهم ، وإشعال نيران عاداتها في مجتمعهم ! ألا يستحق أن يقال أن فيه جاهلية ؟
أيها الأخوة :
نحن أمة - كما يقولون - ما فيها كافيها ، لسنا بحاجة لما يزيد طينتنا بلة ، نحن في غنى ، عن ما يفرق كلمتنا ، أو يمزق وحدتنا ، وكما قال النبي r في حجة الوداع : (( أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى ألا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ r ، قَالَ : لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )) .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنكن يدا واحدة ، كلمتنا واحدة ، هدفنا واحد ، همنا واحد ، فكتابنا واحد ، ونبينا واحد ، وقبلتنا واحده ، فلنحذر الجاهلية وأوضارها ، ولنجعلها تحت أقدامنا ، كما وضعها النبي r ، كما في الحديث الذي في سنن أبي داود ، عنه r قال في حجة الوداع : (( أَلاَ إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ )) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذه المنتنة ـ كما وصفها النبي r ـ لها أضرار جسيمة ، ونتائج مشينة ، ويترتب على وجودها في المجتمع مفاسد كثيرة ، فالكبر الذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه ، ما هو إلا نتيجة من نتائجها ، وثمرة مرة من ثمارها ، ففي الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )) ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ؟ قَالَ r : (( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )) وغمط الناس معناه ـ أيها الأخوة ـ : احتقار الناس .
أيها الأخوة :
ومن نتائجها أيضا تفريق المسلمين ، وتمزيق وحدتهم ، وتصنيفهم حسب عروقهم وأجناسهم ، وصرف الولاء والبراء حسب الشهوات والملذات ، وجعله حسب ما تقتضيه الروابط والعلاقات الواهية ، التي هي في دين الله U أوهى من بيت العنكبوت ، وهذا أمر ينافي الدين ، ويغضب رب العالمين ، يقول تبارك وتعالى : } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا { وفي الحديث الصحيح ، عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ يقول النبي r : (( مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى )) .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنتعاون في سبيل القضاء على سنن الجاهلية بيننا ، ولنحافظ على أمننا ، ولنعمل على وحدة صفنا ، واتحاد كلمتنا ، فهي والله نعمة نحسد عليها ، يجب أن لا نترك مجالا لأحد كائن من كان أن يعبث بها ، وكما قال تبارك وتعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، اللهم احفظ لنا أمننا ، ووحدة صفنا ، واجتماعنا على علمائنا وولاة أمرنا ، اللهم من أرادنا بسوء ، اللهم اشغله في نفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره ، يارب العالمين . اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك ، أن تغيث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالأمطار ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللّهُمّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، هَنِيئًا مَرِيئًا ، غَدَقًا مُجَلّلًا ، عَامّا طَبَقًا ، سَحّا دَائِمًا ، اللّهُمّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ ، اللّهُمّ ارْفَعْ عَنّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكُ اللّهُمّ إنّا نَسْتَغْفِرُكُ إنّك كُنْتَ غَفّارًا فَأَرْسِلْ السّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا . } رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
|