اَلْظُّلْمُ
وَاَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُم
الْحَمْدُ
للهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْبَصِيرِ وَالرَّءُوفِ بِالْعِبَادِ، نَحْمَدُهُ
حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، خَلَقَنَا مِنْ نُطْفَةٍ وَجَعَلَ
لَنَا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ ، صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ
لِعِبَادِهِ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ
لِمَعَادِهِ ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِهَا سُبْحَانَهُ فَقَالَ : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ،
وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - بِأَنَّكُمْ فِي بِدَايَةِ أَشْهُرٍ حُرُمٍ ،
تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا بِمَا يُفْعَلُ فِيهَا ، قَالَ عَنْهَا تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا
فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ .. ﴾ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ؛ عَنْ
أَبِي بَكَرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ - رَضيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّه ـ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ : « الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ،
وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ » .
هَذِهِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ - أَيُّهَا
الْإِخْوَةُ - لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الشُّهُورِ ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ ، وَظُلْمُ النَّفْسِ يَكُونُ بِتَحْلِيلِ
الْحَرَامِ ، أَوْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، أَوِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي
وَالْآثَامِ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ الْكِتَابُ ؛ أَيِ : الْقُرْآنُ . وَالْعِبَادُ : أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ مِنْهُمْ .
يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ، ثُمَّ
قَسَّمَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ ، فَقَالَ : ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ وَهُوَ : الْمُفَرِّطُ فِي فِعْلِ
بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ ، الْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ . ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ﴾ ؛ وَهُوَ : الْمُؤَدِّي لِلْوَاجِبَاتِ ،
التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُسْتَحَبَّاتِ ،
وَيَفْعَلُ بَعْضَ الْمَكْرُوهَاتِ . ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ﴾؛
وَهُوَ : الْفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ
لِلْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ . انْتَهَى مِنْ
تَفْسِيرِهِ رَحِمَهُ اللهُ .
أَخِي الْمُسْلِمُ ؛ حَاسِبْ نَفْسَكَ فَأَنْتَ
أَعْلَمُ بِهَا مِنْ غَيْرِكَ ، وَاللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ
مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
﴾ ، الَّذِي
سَيُحَاسِبُكَ هُوَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَهَنِيئًا لَكَ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ
يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ ، بَلْ هَنِيئًا لَكَ ، ثُمَّ
هَنِيئًا لَكَ ؛ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ
، وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضَ الْمُبَاحَاتِ ، يَقُولُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ ، أَيْ : أَصْنَافًا وَأَنْوَاعًا
ثَلَاثَةً ، ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ
بِأَيْمَانِهِمْ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، ﴿ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ ﴾ ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ ، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ
فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
﴾ ، وَالصِّنْفُ
الثَّالِثُ ، جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ وَوَالِدِينَا وَمَنْ نُحِبُّ مِنْهُمْ
، ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ .
بَارَكَ
اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا
فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا
وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ
للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا
لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى
رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ : أَنَّ ظُلْمَ
النَّفْسِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ شُهُورِ الْعَامِ ، وَلَكِنَّهُ يُضَاعَفُ
فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ ؛ قَالَ : فِي كُلِّهِنَّ. ثُمَّ خَصَّ
مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ
حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ
وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ .
فَحَرِيٌّ بِمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ مِنَ
النَّارِ ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ ، أَنْ يَحْذَرَ ظُلْمَ
نَفْسِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، وَخَاصَّةً
فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ .
أَسْأَلُ
اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ
يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي الدِّينِ ، الْعَامِلِينَ بِكِتَابِهِ
، وَالْمُتَمَسِّكِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ - السَّائِرِينَ عَلَى مَا سَارَ عَلَيْهِ أَسْلَافُنَا
الصَّالِحُونَ .
اللَّهُمَّ
اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا ، وَنُورَ صُدُورِنَا ،
وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا ، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَغُمُومِنَا . اللَّهُمَّ
اجْعَلْهُ مُؤْنِسًا لَنَا فِي قُبُورِنَا ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا وَلَا
تَجْعَلْهُ حُجَّةً عَلَيْنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ .
فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ
يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها
هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |