السخرية بالناس واحتقارهم
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً
عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير
الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها
، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
يا
أهل الإيمان : نداء من الرحمن لكم فأرعوه قلوبكم وأسماعكم: ((يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا
مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ
وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ )) .
بنو
سلِمة قوم من الأنصار، وكانت تكثر فيهم الألقاب والمعايير، يقول أبو جبيرة بن
الضحاك الأنصاري رضي الله عنه: "فينا بني سَلِِمة نزلت هذه الآية ( وَلَا
تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ )"، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "يا فلان"، فيقولون مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم ،
فنزلت الآية " [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود
وصححه الألباني] .
عباد
الله: خُلقٌ من الأخلاق الذميمة، ومرضٌ من الأمراض الاجتماعية السقيمة، إنه
السخرية والاستهزاء بالآخرين .
إنه
خُلُقٌ من أخلاق الكافرين المجرمين (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ))، فكم
سخر الكافرون من أنبيائهم وأتباع الأنبياء المؤمنين،((بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
* وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ )) .
إنه
خُلُقُ المنافقين، فمن مقولة المنافقين: ((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ))، وهم
الذين كانوا: ((يلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصِّدَقَاتِ)).
أما
المؤمنون ،، فهم إخوة لا يسخر بعضهم من بعض، بل هم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم
كالجسد الواحد، مجتنبين نهي ربهم: ((وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: لا يلمز
بعضكم بعضا، فجعل الملموز بمنزلة النفس، وليس من اللائق ولا من العادة أن يلمز
الإنسان نفسه، فكان في هذا تنفير بليغ من هذا الخلق الذميم لأن المؤمنين ((بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) .
أيها
الناس: السخرية والاستهزاء، حرام حرام بين المؤمنين أهل الإسلام، وفاعلها يستحق
اسم الفاسقين الظالمين، سواء كانت بالهمز أو اللمز أو النبز أو الغمز أو كانت
بالتعيير أو التهكم ((وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، ويتوعد الله تعالى على هذا الخلق الذميم
فيقول: ((وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة))، والهماز: هو الذي يعيب الناس
ويتنقصهم بالأفعال، كحركة الرأس والعين والفم واليد ونحوها، واللماز: هو الذي يعيب
الناس بالقول .
((ويل
لكل همزة لمزة)) مَنْ الذي يَتَوَعَّد؟ إنه العظيم القوي القادر شديد العقاب، ذي
البطش الشديد القائل : ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ))، والقائل: ((إِنَّ
بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)) .
فويلٌ
للساخرين بالمؤمنين، وسيقول المفرط يوم الدين: ((يَا حَسْرَتَى عَلَىٰ مَا
فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ))، روى البخاري في
صحيحه من حديث المعرور قال: لَقِيتُ أبا ذَرٍّ -رضي الله عنه- بِالرَّبَذَة ِ،
وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ
النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أبا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إنك
امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخوانكم خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ » .
نعم
والله.. إن السخرية بالناس جاهلية ومن فعل أهل الجاهلية.
قالت
عائشة رضي الله عنها : قلت يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم : حَسْبُكَ مِنْ
صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تعني أنها
قصيرة - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ
مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
يا
ألله ،، ما أقبح السخرية، وما أشنع عاقبتها، وما أنتنها ، كلمة واحدة من السخرية
تعكر ماء البحر كله بنتانتها ، فكيف بكلمات وعبارات وحركات ورسائل مكتوبة وصور
ومقاطع. فاتقوا الله يا أهل الإيمان ولا تُعرضوا أنفسكم لغضب الديان، فكما تدين
أيها الإنسان تدان .
بارك الله لي ولكم في
الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم
إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى , وقدَّر فهدى , وأخرج المرعى ، نعمُهُ
تترى , وفضله لا يُحصى , لا مُعطي لما منع ولا مانع لما أعطى , وكلُّ شيء عنده
بقدر وأجلِ مسمى .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الحكمةُ فيما قدّر
وقضى ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأخشى لربه والأتقى ، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
عباد
الله : إن للسخرية والاستهزاء صوراً وأشكالاً :
ــ
فمن أشنع وأقبح السخرية: السخرية بالعلماء والصالحين، والسخرية بالآمرين بالمعروف
والناهين عن المنكر، ولمزهم بالألقاب السيئة .
ــ
ومن صور السخرية الشائعة: السخرية بالعمال والضعفاء والفقراء واحتقارهم لأنهم من
البلد الفلاني أو ذوي هيئة معينة ، فقد يكون هذا المسخورُ به خيراً من ملء الأرض
من مثل الساخر كما قال تعالى: ((لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن
يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ، وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ
خَيْرًا مِّنْهُنَّ)) وخصّ النساء لأنهن تكثر فيهن السخرية والاستهزاء تأكيداً
لنهيهن عن ذلك .
فتذكّر
أيها الساخر أنك ربما سخرت بولي من أولياء الله تعالى وأنت لا تشعر، فتكون عاديت
الله وحاربته .
وقد
زاد هذه الخصلة الذميمة انتشاراً بين الناس وسائلُ التواصل الحديثة، عبر الرسائل
والمقاطع المحتوية على التهكم والسخرية بعباد الله ، فلا تحملنكم هذه النعمة
(الأجهزة) على المعصية فتتحول عليكم نقمة .
ــ
ومن صور السخرية التي عمت بها البلوى: احتقار الآخرين من أجل النسب والأصل، أو من
أجل اللون والجنس، وقد قال ربنا تبارك وتعالى: ((عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا
مِّنْهُمْ))، وقال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))،
وقال صلى الله عليه وسلم: « كلكم لآدم وآدم من تراب»، ولَيَنْتَهِين المتفاخرون
على الناس بالنسب أو لَيكُوننَّ أهون على الله من الجُعلان، كما جاء في الحديث،
فالنسب ليس باختيارك حصلته، وإنما باختيارٍ من الله لك بلاءً ، فاحمد الله ولا
تبغي على عباد الله .
ويُخشى
على الساخر بالناس أن يكون في قلبه كِبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل
عن الكبر قال: « بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ » أي احتقارهم ولا يدخل الجنة
من كان في قلبه ذرة من كبر.
فاتقوا
الله أيها المؤمنون «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» ، و« كفى بالمَرءِِ شرًا أنْ
يَحْقرَ أخاهُ المسلم ».
اللهم طهر قلوبنا من الكبر
والغل والحسد والشك والشرك والنفاق ومساوئ الأخلاق . اللهم وطهر ألسنتنا من
السخرية والاستهزاء والاحتقار. ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا واغفر لنا
وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي
لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق
والأهواء والأدواء يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب
والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى.
ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك
برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء
مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم زينا
بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ألف بين قلوبنا
وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما
ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب
علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها
علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم ربنا ظلمنا أنفسنا
ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لنا مغفرةً من عندك وارحمنا إنك
أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.. اللهم إنا نسألك
بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا
يحي يا قيوم نسألك أن تغفر لنا وتغيثنا غيث الرحمة، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا
من القانطين ... اللهم يا من لا يملك إنزال الغيث غيره أسقنا وأغثنا .. اللهم
أغثنا غيثاً مغنياً سحاً غدقاً هنيئاً مريئاً نافعاً غير ضار اللهم سقيا رحمة...لا
سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق.. اللهم أغثنا اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا غيثا
عاجلاً غير آجل تحيي به البلاد وتغيث به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد،
اللهم أغث البلاد وانشر رحمتك على العباد واجعله بلاغاً للحاضر والباد يا حي يا
قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك يائسين يا
رحمن يا رحيم . اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |