أَسْبَابُ النَّجَاة
خطبة جمعة بتاريخ / 1-8-1435 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللهُ فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ مطلب عبادِ الله الصالحين وغاية أولياء الله المقربين وشغلهم الشاغل ؛ النجاة يوم الوقوف بين يدي رب العالمين . ولنتأمل رعاكم الله في هذا الباب العظيم ؛ باب النجاة يوم القيامة ، النجاة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل ، لنتأمل في هذا المقام قصةً عجيبة أطرافها الثلاثة هم خير أمة محمد عليه الصلاة والسلام .
روى الإمام أحمد في مسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : « بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ مَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَلَمْ أَشْعُرْ ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ : مَا يُعْجِبُكَ أَنِّي مَرَرْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى سَلَّمَا عَلَيَّ جَمِيعًا ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَاءَنِي أَخُوكَ عُمَرُ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْكَ فَسَلَّمَ فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ؛ فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا فَعَلْتُ ، فَقَالَ عُمَرُ : بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتَ ، قَالَ قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّكَ مَرَرْتَ وَلَا سَلَّمْتَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقَ عُثْمَانُ وَقَدْ شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرٌ ، فَقُلْتُ أَجَلْ ، قَالَ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَوَفَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ قَبِلَ مِنِّي الْكَلِمَةَ الَّتِي عَرَضْتُ عَلَى عَمِّي فَرَدَّهَا عَلَيَّ فَهِيَ لَهُ نَجَاةٌ)) » .
تأملوا أيها المؤمنون رعاكم الله هذه القصة العظيمة ما أعجبها وأجلَّ شأنها وأدلَّها على عناية الصحابة والرعيل الأول رضي الله عنهم وأرضاهم بهذا الأمر العظيم أمر النجاة يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى ، ويزداد هذا الأمر عِظمًا وجلالةً عندما تتأمل في هذه القصة العظيمة وتجد أن أطرافها في هذا الباب العظيم هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم .
أيها المؤمنون عباد الله : إن الواجب على العبد العاقل الناصح لنفسه أن يهتم اهتمامًا عظيما وأن يعنى عناية كبيرة بأمر نجاته يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى ؛ فإنه إي والله لابد أن يقف بين يدي الله عز وجل في يومٍ عظيم ومقامٍ خطير يحاسَب فيه العباد على ما قدَّموه في هذه الحياة من خيرٍ أو شر ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم:31] .
vأيها المؤمنون عباد الله : وإن أعظم ما تكون به النجاة يوم القيامة ، بل لا نجاة إلا به ؛ توحيد الله وإخلاص الدين له جل في علاه ، فلا نجاة يوم الدين إلا بتوحيد رب العالمين ، ودليل ذلك وشاهده واضحٌ في القصة المتقدمة .
vومن موجبات النجاة يوم القيامة : اتباع هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ولزوم نهجه القويم ؛ فلا نجاة إلا باتباع السنة ، فإن مثَل السنة -كما قال العلماء- كمثل سفينة نوح عليه السلام ؛ من ركبها نجا ، ومن تركها غرق .
vومن جماع موجبات النجاة يوم القيامة : ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور:52] ؛ فذكر أمورًا أربعة لا فوز ولا نجاة إلا بها : طاعة الله ، وطاعة رسوله، وخشيته جل في علاه ، وتحقيق تقواه .
vومن موجبات النجاة يوم القيامة أيها المؤمنون : فعل فرائض الإسلام وواجبات الدين والبُعد عن الآثام والحرام؛ روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنَّ النُّعْمَانَ بْن قَوْقَلٍ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟» قَالَ : «نَعَمْ » ، وفي رواية «وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا» قَالَ : « نَعَمْ » ، فقَالَ: «وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا» .
vومن موجبات النجاة أيها المؤمنون يوم القيامة : حفظ اللسان وصيانته ، وتجنب الفتن ، ولزوم البيوت عند اشتعالها ، والندم على فعل الذنوب ، والمبادرة إلى التوبة إلى الله جل وعلا . روى الترمذي في جامعه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟» قَالَ: ((امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)) .
vومن موجبات النجاة أيها المؤمنون : أن لا يغتر المرء بعمله وإن كثُر ، بل ينبغي أن يكون دومًا وأبدا خائفًا راجيا ، يأتي بأعماله صحيحةً قويمة ويجعلها بين الرجاء والخوف ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60] . روى الحاكم في مستدركه أن عَبْد اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه كان في بيته عند امرأته فَبَكَى ، فَبَكَتِ ، فَقَالَ لها : مَا يُبْكِيكِ ؟ فقَالَتْ: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ ، فقَالَ رضي الله عنه : ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 71] ، قال رضي الله عنه : « فَلَا أَدْرِي أَنَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا» .
vومن موجبات النجاة أيها المؤمنون : اللَّجأ الصادق إلى الله وكثرة دعائه والإلحاح عليه ؛ فإن النجاة بيده ، ولا نجاة لعبدٍ إلا إذا نجَّاه الله ؛ فإن الأمر كله بيد رب العالمين سبحانه وتعالى ، والدعاء مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة .
vومن موجبات النجاة أيها المؤمنون : كثرة الاستغفار ؛ قال الله تبارك وتعالى : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال:33] قد جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال : «عجبتُ لمن هلَك والنجاة معه» !! فقيل وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال : «الاستغفار».
أيها المؤمنون عباد الله : أسأل الله جل في علاه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا أجمعين من عباده الناجين يوم الدين ، اللهم إنا نسألك النجاة يوم الخزي ، اللهم اجعلنا من عبادك الناجين يوم القيامة ، اللهم إنا نعوذ بك من الحرمان والخسران ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واحذروا -رعاكم الله- من الاغترار بهذه الدار ، فإن متاعها متاع الغرور ، وهو متاعٌ زائل ، والحياة الحقيقية إنما هي عندما يقف العبد يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت:64] أي هي الحياة الحقيقية ؛ فليعِدَّ الناصح لنفسه لذلك اليوم عُدَّته ، فإن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكلُّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيْتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ الصدِّيق ، وعمرَ الفاروق ، وعثمانَ ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا . اللهم يا ربنا أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم ولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم شرارهم يا رب العالمين .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، علانيته وسرَّه . اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|