حُسْــــنُ الظَّـــــنِّ بِــاللهِ
الحمد لله الكريمِ الرحمن ، المحسِن المنَّان ، والى على عباده الفضل والمنَّ والإحسان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توحيدٍ وإخلاصٍ وإيمان ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والإحسان .
أما بعد أيها المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جلَّ في علاه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه ، وتقوى الله جلَّ وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون عباد الله : إن من عبوديات القلب العظيمة وواجبات الإيمان الجليلة «حُسْنَ الظن بالله» ؛ فإن حسن الظن به جلَّ في علاه مقامٌ عليٌّ من مقامات الدين الرفيعة ، والله عز وجل لا يخيِّب عبدًا أحسن الظن به ، فإنه جلَّ وعلا لا يخيِّب أمل آمل ، ولا يضيع عمل عامل ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود:115] .
ولقد تكاثرت الدلائل على عِظم شأن حسن الظن بالله وما يترتب عليه من المقامات الحميدة والآثار العظيمة والثمار المباركة في الدنيا والآخرة ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)) ، وروى الإمام أحمد عن واثلة ابن الأسقع رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ؛ فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)) ، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((قَالَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)) ، وروى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول : ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ)) ، ورواه أحمد وزاد في روايته ((فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) ؛ فقال الله: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت:23] )) .
فهذه الدلائل وغيرها -عباد الله- تدل على عظم شأن حُسن الظن بالله ، وأنه عبودية عظيمة وطاعة جليلة ، وأنَّ هذا الإحسان في الظن بالله كلما قوي في العبد أثمر الثمار العظيمة والآثار المباركة والعوائد الحميدة على صاحبه في الدنيا والآخرة .
أيها المؤمنون عباد الله : وحُسن الظن بالله هو فرعٌ عن المعرفة بالله ؛ فإنَّ العبد كلما كان أعظم معرفةً بالله وبأسمائه وصفاته ، وأنه جلَّ وعلا وسع كل شي رحمةً وعلما ، وأنه سبحانه غفورٌ رحيم ، توابٌ كريم ، جوادٌ محسِن ، يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ، وأنه لا يتعاظمه ذنب ، وأنه واسع المغفرة ، إلى غير ذلكم من صفاته العظيمة ونعوته الجليلة ؛ فكلما ازداد العبد معرفةً بالله زاد حظه ونصيبه من حسن ظنه به .
أيها المؤمنون عباد الله : وحسن الظن بالله معدودٌ في أعظم المنن وأجل العطايا ؛ روى ابن أبي الدنيا في كتابه «حُسن الظن بالله» عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنُّهُ ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ» .
أيها المؤمنون عباد الله : وحُسن الظن بالله لا يكون مع التفريط والإضاعة والإهمال وتتبع الملاذ والشهوات ، وإنما يكون مع حُسن العمل وتمام الإقبال على الله جل وعلا ، وأما المسيء المضيِّع المفرِّط المرتكب للمحرمات المقترف للآثام فإن آثامه وخطاياه تحول بينه وبين حسن الظن بالله ، قال الحسن البصري رحمه الله : «إنَّ المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل ، وإنَّ الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل» .
نعم عباد الله ؛ كيف يكون المضيع المفرِّط محسنًا الظن بربه !! وهو عن ربه ومولاه شارد ، وعن طاعته مبتعد ، وعن أبواب رحمته ومغفرته معرض ؛ فلا يكون حُسن الظن بالله إلا مع حسن الإقبال على الله جل وعلا ، والواجب على عبد الله المؤمن أن يتقي الله عز وجل ربه ، وأن لا تسيطر عليه ذنوبه وخطاياه ، وأن لا يتعاظم خطاياه في جنب مغفرة الله ، فإنَّ الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره ، وليحذر من اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، وليُحسِن في الإقبال على الله عز وجل تائبًا منيبا وهو يحسن الظن بربه أن يغفر له زلته ، وأن يقبل توبته ، وأن يعفو عن إساءته ، وأن يرفع درجته ، وليتدارك نفسه بذلك قبل أن يفجأه الموت وهو على حالةٍ لا يسرُّه أن يلقى الله جل وعلا بها .
اللهم يا ربنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن ترزقنا أجمعين التوفيق لمحابِّك من الأعمال ، وصدق التوكل عليك ، وحسن الظن بك يا ذا الجلال .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتّقوا الله ؛ فإنَّ من اتَّقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
أيها المؤمنون عباد الله : وإنَّ من شر الذنوب وأعظمها وأخطرها على الإنسان سوء الظن بالله جل وعلا ؛ فإنَّ الله عز وجل ذكر سوء الظن به وصفًا للمشركين والمنافقين ، ولم يجئ في القرآن وعيدٌ على ذنب مثل ما جاء من الوعيد على سوء الظن بالله جل وعلا ، قال الله تعالى: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [الفتح:6] .
وسوء الظن بالله جل وعلا من أعظم أسباب الردى والخسران ، قال الله تعالى: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [فصلت:23-24] .
أيها المؤمنون عباد الله : وسوء الظن بالله من وراء الذنوب والآثام ؛ فإذا ساء ظن العبد بربه ساء عمله ، وإذا حسُن ظنه بربه حسُن عمله . ومداواة النفس في هذا المقام : أن يقبِل العبد على الله عز وجل إيمانًا وتوكلا ، ومعرفة بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وأن يجاهد نفسه على تحقيق ما تقتضيه هذه المعرفة من عبودية لله عز وجل ، فإن كل اسمٍ لله وكل صفةٍ له لها من العبودية وحسن الظن بالله ما تقتضيه تلك الأسماء والصفات .
أيها المؤمنون عباد الله : ولنعلم أن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . واعلموا أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر الدين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، علانيته وسرَّه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزيدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا :
http://islamekk.net/catsmktba-125.html |