وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ
خطبة جمعة بتاريخ / 15-3-1440 هـ
الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ وصفيه
وخليله، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغُ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه
، ولا شرًا إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى ، فإن تقوى الله جل وعلا هي خير
زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله ، وتقوى الله : عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء
ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون : أدبٌ إسلامي
عظيم أدَّب الله به عباده في القرآن ودعاهم إلى التحلي به ، وبالتحلي به تتحقق لهم
في حياتهم أخوَّةٌ إيمانية متينة ، وصِلة دينية عميقة ، ورابطة وثيقة لا تنفصم . وإذا
تخلى العباد عن هذا الخلُق العظيم نزغ الشيطان بينهم ، وأفسد ودَّهم ، وخلخل في
صلتهم ، وقطَّع أواصرهم ؛ فوجب على العباد أن يتنبهوا لهذا الخلُق العظيم وأن يتحلَّوا
به ليدوم الصفاء والود والإخاء ؛ إنه -عباد الله- القول الحسن في التخاطب والتحاور
والمحادثات فيما بين العباد .
تأمل هذا الهدي العظيم في
قول الله سبحانه: ﴿ وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء:53] ؛ عباد الله : في هذه الآية الكريمة أمر الله عز وجل العباد في تخاطباتهم أن
يتخيروا من القول أحسنه ، ومن الكلام أطيبه ، ومن المنطق أجمله ، وبيَّن عز وجل أن
الشيطان حاضرٌ عند المرء في قوله لينزغ في قول المرء ليقول القول السيء ، فيترتب
على ذلك تقطع الأواصر وفساد الصلات . فكم -عباد الله- نشبت من عداوات وحروب بكلمة
واحدة سيئة ، وكم نُشرت بين العباد من محبةٍ وإخاءٍ وصفاء بكلمة واحدة طيبة ، فالقول
جدُّ خطير ، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا
أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ
فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ
اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)).
تأمل -رعاك الله- في أمر
الله لعباده أن يقولوا التي هي أحسن ؛ وهذا فيه دعوة للعباد قبل أن يقولوا القول أو
أن يتكلموا بالكلمة أن ينظروا ويتأملوا فيما يقولون ، لأن الكلمة الحسنة الطيبة لا
تصدر إلا عن تأملٍ وروية ، ولم "يقل قل لعبادي يقولوا الحسن" وإنما قال :
«التي هي أحسن» ؛ فيتخيروا من الكلمات والأقوال
أطيبها وأحسنها، فإذا فعلوا ذلك تحقق بينهم الود والصفاء والإخاء .
عباد الله : وإذا قيل في تحادثات
الناس بينهم القول السيء فسدت العلاقات ونشبت العداوات ، لأن القول السيء يباعد عن
القلوب الحب والرحمة ؛ وهذا من أجمل ما اتصفت به القلوب ، وإذا ابتعد عن القلب
الحب والرحمة حلَّت البغضاء والعداوة ونشأ عن ذلك التخاصم والتقاتل ، ولا دواء
لهذا الداء إلا بامتثال أمر الله جل في علاه أن يقولوا التي هي أحسن ؛ وهذا -عباد
الله- في تخاطبات المرء كلها مع أهله وولده وجيرانه وكل من يعامل؛ يعاملهم بهذه المعاملة العظيمة التي أرشد الله
عباده إليها .
أيها المؤمنون : وإذا حصل
للمرء موقفٌ من المواقف فكان من يعامله لا يقول التي هي أحسن بل يقول السيء من
القول؛ فعلى المرء في هذا المقام أن لا يحاكيه في ذلك ، بل عليه أنه يمتثل أمر
الله حتى وإن كان مَن يخاطبه يسيء القول ، ولهذا جاء عن الحسن البصري رحمه الله
تعالى في معنى هذه الآية قول الله عز وجل: ﴿ وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ قال: «التي هي أحسن: أن لا يقول له مثل الذي يقول ، بل يقول له : غفر الله لك
وعفا الله عنك ونحو ذلك» . وبهذا القول -عباد الله- تُطفئ
جمرة العداوة ويُقطع الطريق على الشيطان في نزغه بين الناس ، ﴿ إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾: أي يحرش ويوغر القلوب ويوجد العداوات ، ﴿ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ وهذا فيه الأمر بأن يُتخذ الشيطان عدوًا ، ومعادات الشيطان بترك طاعته
والإقبال على الله طاعة وامتثالا واهتداء بهديه جل في علاه .
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى أن يوفقنا أجمعين لأن نقول التي هي أحسن ،
وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أقول هذا القول
وأستغفر الله لي ولكم ؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها
المؤمنون : اتقوا الله.
عباد الله: وكما أن للشيطان
نزغًا في الأقوال فكذلك له نزغٌ في الأفعال ؛ ولهذا يجب على المرء أن يكون على
حيطة في كل تعاملاته مع إخوانه في أقواله وأفعاله من نزغات الشيطان ، وقد خرَّج البخاري
في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لاَ
يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ
الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)) ، فالشيطان
-عياذًا بالله- حاضرٌ في الأقوال والأفعال لينزغ بين العباد لتقع العداوات وتنشب
الشرور وتتقطع الصلات ، وهذه بغية الشيطان أن يفرِّق بين المتحابين ، وأن يوقع
العداوة بين المتوادين ؛ فوجب على العباد أن لا يمكِّنوا الشيطان منهم ليحقق بغيته
ويحصِّل طِلبته ، أعاذنا الله أجمعين من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه .
وصلُّوا وسلموا
-رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى
الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ
بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛
أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن
تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك
محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ،
اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا ، وحافظًا ومؤيدا . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا
وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم
وفق ولي أمرنا لهداك ، وأعِنه على طاعتك وسدِّده في أقواله وأعماله ، اللهم وفِّقه
وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ، اللهم
أعنا ولا تعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا
ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا لك شكارين ، لك
ذكارين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبل توبتنا ، واغسل
حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقَّه وجلَّه ، أوله وآخره ، علانيته وسرَّه ،
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات . اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ؛ فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم
أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثا ، هنيئًا مريئا ،
سحًّا طبقا ، نافعًا غير ضار ، عاجلًا غير آجل ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدٍم ولا
عذابٍ ولا غرق ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقُصنا ، وآثرنا ولا تؤثر
علينا . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق
البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |